رأي ومقالات

منى عبد الفتاح : السد الإثيوبي.. معايير القوة الإقليمية

[JUSTIFY]يشهد تكتل الدول الأفريقية الثلاث، السودان وإثيوبيا ومصر، إعادة التشكيل لأنماط التفاعلات بين قواها الإقليمية بفضل قضية رئيسة ومحورية هي قضية إنشاء سد النهضة الأثيوبي الذي ابتدأت إثيوبيا إنشاءه في أبريل/نيسان 2011 ومقرر له أن ينتهي حتى عام 2015. وقامت إثيوبيا في 27 مايو/أيار 2013 بالإعلان عن تحويل مجرى النيل الأزرق‏ مؤقتاً استعداداً لبناء سد النهضة أو مشروع الألفية العظيم‏ السد، والذي يعدُّ أكبر مشروع لإنتاج الكهرباء من المياه المخزونة في القارة الأفريقية.
وفي ظل هذا التوتر يبدو جليّاً أنّ العلاقات بين السودان ومصر من ناحية وبين السودان وإثيوبيا من ناحية أخرى تخضع لإستراتيجية التنافس على المصالح والنفوذ كتفضيلات يمكن أن تحدد مستوى العلاقات بين هذه البلدان الثلاثة كتقارب أو فتور.

” العلاقات بين السودان ومصر من ناحية وبين السودان وإثيوبيا من ناحية أخرى تخضع لإستراتيجية التنافس على المصالح والنفوذ كتفضيلات يمكن أن تحدد مستوى العلاقات بين هذه البلدان الثلاثة كتقارب أو فتور ”

الترجيح بكفة العلاقات لم تكن دول حوض النيل فيما قبل مدركة لحجم احتياجها لمياه النهر، فهي لم تستفد إلا من نسبة ضئيلة من مياهه للري الزراعي، لأنّها كانت تعتمد على الري من الأمطار الكثيفة. ولكن تغير الحال بالتوسع في المشاريع الزراعية نتيجة لتزايد الكثافة السكانية في هذه الدول، وتحول الاتجاه إلى الاستفادة من مياه النيل حيث بات أمراً محتوماً بل بدأت إشارات إرهاصاته في الظهور.

تم الاتفاق والتوقيع على “مبادرة دول حوض النيل” عام 1999، من تسع دول هي بوروندي، الكونغو، مصر، إثيوبيا، السودان، كينيا، رواندا، تنزانيا وأوغندا. وفي ظل تفاقم بعض التوترات على العلاقات والنقص الحاد في المياه تعددت جلسات المفاوضات حتى وصلت إلى اتفاقية عنتيبي، وهي اتفاقية إطارية للتعاون تمت عام 2010 كتعديل لمبادرة حوض النيل التي تمت 2009.

وتم التوقيع على هذه الاتفاقية من قبل ست دول هي دول المنبع، بوروندي وإثيوبيا وكينيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا، بينما لم توقع دول المصب السودان ومصر لأنهما رأيا أنّ الاتفاقية تتجاوز الحقوق المكتسبة لكليهما من مياه النيل.

ومثلما استفادت دول المصب من إقامة السدود لتوليد الطاقة الكهربائية، مثل السد العالي في مصر وبعض السدود في السودان، فإنّ بعض دول الحوض مثل إثيوبيا وأوغندا شرعت هي الأخرى في الاستفادة من مياه النيل بإقامة السدود لتوليد الطاقة الكهربائية.

أما المواقف الآنية فقد تشكلت وفقاً لتغيرات طقس السياسة، فبالرغم من الإعلان المسبق عن شروع إثيوبيا في إنشاء السد إلا أنّ المشروع لم يرق لمصر، وذلك لأنّ مصر الرئيس محمد مرسي التي تشهد تنفيذ السد اليوم هي غير مصر التي شهدت الإعلان عنه في عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك. ويندرج خوف مصر تحت بند تأثير السد على حصتها من مياه النيل البالغة 55 مليار متر مكعب، والتي تعتمد عليها في معاشها ومعادها.

أما السودان فقد اتضحت رؤيته حول السد من منطلقين. المنطلق الأول هو مجموع آراء الخبراء التي سجلت الآثار الإيجابية والسلبية للسد، حيث رجحت كفة الموازين الآثار الإيجابية المتوقعة والتي تتمثل في توليد الطاقة الكهربائية والتي سوف تحل مشكلة الطاقة لإثيوبيا وللمنطقة الإقليمية.

كما أنّ كمية المياه المخزنة سوف تعمل على انتظام فيضان النيل، وبالرغم من أنّ التخزين في أعوامه الأولى سيسبب عجزاً في كمية المياه قبل أن تعود إلى طبيعتها، إلا أنه يمكن تعويضها من مخزون بحيرة ناصر عند السد العالي. أما المنطلق الثاني فهو ينحصر في الموقف السياسي الذي تشكّل مؤخراً باتجاه السودان نحو عمق الهضبة الإثيوبية، وذلك لرغبة السودان في أن يتخفّف من أعباء العلاقة مع مصر. تلك العلاقة التي فرضتها الجغرافيا والتاريخ المشترك ولكن تم تفكيك عراها رويداً رويدا بسياسات الكواليس التي تذاع باسم الرأي العام بينما يتبرأ منها الموقف الرسمي.

” كمية المياه المخزنة سوف تعمل على انتظام فيضان النيل، بالرغم من أنّ التخزين في أعوامه الأولى سيسبب عجزاً في كمية المياه قبل أن تعود إلى طبيعتها ”

معايير القوة والضعف تبنى معايير القوة على عدة عوامل تقليدية وحديثة. فالعوامل التقليدية هي التي تتميز بالثبات النسبي مثل المساحة والحدود والموقع والسكان. ولكن لم تعد العوامل التقليدية هي المؤثر الرئيس على قوة الدولة حيث دخلت العوامل الحديثة وهي العوامل المتجددة حسب ما يفرضه الواقع الدولي، والمرتبطة بالثورة العلمية والتقنية المتطورة باستمرار.

وبالإمكان تغير أنماط القوة من زمان إلى زمان، خاصة مع حقيقة التحديات التي تؤمن بأنّ الخيار ليس للدولة وحدها في أن تثبت في مكانتها كقوة دولية أو تتزلزل قوتها إلى ضعف واضح، وإنّما تحكمها الظروف الدولية المحيطة ويحكمها امتلاكها لعوامل القوة الحديثة علمياً وتكنولولجياً وإعلامياً، ولا تنتعش هذه العوامل إلا في ظل نظام سياسي مستقر وفاعل.

ويعتبر عدم الاستقرار المشكلة الأكثر بروزاً والذي تعاني منه الدول الثلاث بدرجات متفاوتة، فمصر ما زالت تتلمس خطاها نحو الديمقراطية وتدفع الثمن باهظاً متمثلاً في الصراعات السياسية والانتقال بتركيبة الدولة من مرحلة الثورية إلى الدولة.

أما السودان فيعاني من الصراعات الداخلية مع متمردي الجبهة الثورية ومجموعات الحركات المسلحة وما زال يخرج من حرب ليدخل معها في أخرى، فضلاً عن بؤر صراع متوترة في الشرق والغرب والشمال. أما إثيوبيا فتعاني هي الأخرى من العنف الطائفي وتوتر علاقتها مع الجارة إريتريا وبالرغم من الهدوء النسبي إلا أنّه هدوء على فوهة بركان من الممكن انفجاره في أي وقت.

وبالنسبة للدول الثلاث فهي ما زالت تواجه تصاعداً على صعيد أمن خطوط ومناطق الحدود في تعقيد واضح لهذه المشاكل، وهو وثيق الصلة بالنزاعات الداخلية وعدم الاستقرار السياسي فضلاً عن افتقار مناطق النزاع الحدودي هذه لأي ضابط يحكم التفاعلات والتدفقات والتداخل الذي يؤدي إلى مزيد من الصراع.

وأنصع مثال لذلك الفشل في وضع حد للخلاف وترسيم الحدود حتى تحولت إلى صدامات حادة بين الدول فمثلث حلايب هو بؤرة الصراع الحدودية بين السودان ومصر، ومنطقة الفشقة الحدودية بولاية القضارف بالسودان هي بؤرة أخرى للنزاعات الحدودية بين السودان وإثيوبيا.

وعلى نفس الخط الحدودي، وعلى بعد أربعين كيلومترا من الحدود السودانية في منطقة بني شنقول، يتم بناء السد الإثيوبي العظيم والذي من المتوقع أن يصبح أكبر سد كهرومائي في القارة الأفريقية، والعاشر عالمياً إنتاجاً للكهرباء. فهل ستسمح إثيوبيا بعد أن ضمنت نقطة القوة الإقليمية هذه لأيّ من دولتي المصب بأن تمارس ضغوطها عليها بالتخلي عن مشروع كهذا.

وبالإضافة للهزات السياسية التي عمّت دول حوض النيل، وهي ما أثّرت على السياسات المائية الخاصة باقتسام الموارد المائية، حدث اختلال وارتجاج واضح في ميزان القوى المائية.

ففي مقاله “سياسات مياه النيل” الذي قام بترجمته الفاضل عباس محمد علي، والمنشور على موقع سودانايل بتاريخ 9 يونيو/حزيران 2013م ، أرجع آني فريتاس -من معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية التابع للاتحاد الأوروبي- ذلك الارتجاج إلى دخول عنصر جديد وخطير ضمن الجهات المانحة والممولة لمشاريع الاستفادة من مياه النيل، بالإضافة لعنصر معروف منذ سنوات: وهو “صندوق حوض النيل” المشترك بين “المبادرة” والبنك الدولي.

وقد كانت آلية عمل الصندوق تفترض الموافقة الجماعية المسبقة من كل دول الحوض قبل الدخول في عملية تمويل أي مشروع للاستفادة من مياه النيل، وذلك بهدف تدعيم البنية التحتية لأيٍّ من الدول الواقعة على ضفاف النيل. ولكن ومع ظهور ممولين جدد مثل الصين والهند ودول الخليج العربي، أصبح التقيّد بشرط الموافقة الإجماعية غير وارد.

وأضاف آني فريتاس أنّ ما شجّع هذه الدول المتلقية على المضي قدماً في تحقيق طموحاتها التنموية الوطنية حتى ولو تعارضت مع مصالح الدول الأخرى المطلة على النهر، هو أنّ هؤلاء الممولين الجدد قد أتوا بشروط مرنة وغير محملة ببنود تعجيزية مثل تلك التي اشتهر بها البنك الدولي. وبهذا فقدت دول حوض النيل الحد الأدنى من التفاهم الذي كان بمثابة صمام الأمان وضامن الحماية من المواجهة الصريحة.

” بالإضافة للهزات السياسية التي عمّت دول حوض النيل وهي ما أثّرت على السياسات المائية الخاصة باقتسام الموارد المائية، حدث اختلال وارتجاج واضح في ميزان القوى المائية ”

الخلافات تؤجج الصراع المائي كان هناك خلاف مائي مكتوم بدأ مع بناء السد العالي عام 1964. ذلك التاريخ ترجع إليه أذهان النخبة السودانية على الدوام حيث أخذ تحويل مجرى النيل شكلين، أولهما كان في الجزء الشمالي من السد العالي عند تكوّن بحيرة ناصر في مصر والتي رافق تدفقها وعود بالرخاء والتنمية. أما الشكل الثاني فقد كان في الجزء الجنوبي عند نقطة تكوّن بحيرة النوبة في السودان والتي شهدت تهجير الآلاف من سكان النوبة من قراهم التي غرقت تحت البحيرة الممتدة شمالاً وجنوباً.

وتعود الأذهان أيضاً إلى رفض التسليم والنظر في الاتفاقيات المائية القديمة، خاصة تلك الاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان عام 1959 والتي أسفرت عن توزيع حصة المياه، حيث خُصص حوالي 55.5 مليار متر مكعب منها أي الثلثين لمصر، و18.5 مليار متر مكعب أي الثلث للسودان.

تمثل الخلافات السياسية بين الدول الثلاث عائقاً رئيسياً أمام تفعيل أي حلٍّ مرتقب لقضية سد النهضة الإثيوبي، خاصة مع وجود تاريخ طويل من عدم الثقة فيما بينها. وقد تعززت هذه الخلافات وأصبحت أكثر تعقيداً مع اتخاذ كل منها نموذجاً مختلفاً لكيان الدولة الرسمي وتعامله في علاقاته الدولية.

فالسودان يحتفظ بنموذجه العسكري منذ 24 عاما، ومصر ما زالت في ظل مخاض الانتقال من الثورية إلى الدولة، وإثيوبيا تحولت إلى دولة إصلاحية تخطو خطوات واسعة نحو التنمية.

وليس هناك أوضح مما جاء به الصادق المهدي زعيم حزب الأمة السوداني في كتابه “مياه النيل: الوعد والوعيد” الصادر منذ العام 2000، من أنّ لدول حوض النيل مصالح لا بد من رعايتها وذلك بالاعتراف بالسيادة المشتركة على النهر. وحدّد الصادق المهدي مصر كصاحبة المصلحة الكبرى في مياه النيل لأسباب تاريخية وطبيعية، والسودان كصاحب مصلحة كبيرة باعتبار ما لديه من أراضٍ صالحة للزراعة المروية، وإثيوبيا كمنتجة كبرى للمياه والكهرباء.

وإزاء هذه الأدوار لكل دولة فإنّ المطلوب منها نظرة تكاملية لمصلحة الأمن الغذائي والطاقي للدول المذكورة. ولا بد أن تدخل دول الهضبة الاستوائية في معادلة التكامل هذه بعد أن يتأكد الجميع من أنّه بالإمكان وجود معادلات كسبية في حوض النيل، وهذه قد تتحول إلى صفرية إذا غابت الحكمة والقيادة الرشيدة.

وقد شجّع الخوف من التأثير السلبي على مياه النيل، على تكوين لجنة فنية ثلاثية لتقدير الآثار السالبة على الدول الثلاث -السودان ومصر وإثيوبيا- من إنشاء السد، ولكن ليس هناك من سبيل إلى التأكد من استقلالية اللجنة، وعدم دمغ تقاريرها بمواقف ونتائج مبنية على حيثيات سياسية. وبهذا نجد أنّ المياه تظل على الدوام هي إحدى قضايا الأمن الوطني والقومي، والمساس بها يعتبر مساساً بحرمة الوطن، حتى تحولت إلى ما أنبأت به الدراسات التي ذكرت أنّ الماء سيكون هو المادة الأكثر اشتعالاً في العالم وليس النفط.

” تمثل الخلافات السياسية بين الدول الثلاث عائقاً رئيسياً أمام تفعيل أي حلٍّ مرتقب لقضية سد النهضة الإثيوبي، خاصة مع وجود تاريخ طويل من عدم الثقة فيما بينها “[/JUSTIFY]

منى عبدالفتاح
الجزيرة