تحقيقات وتقارير

داخل ( القبو ) المهجور في شارع الجمهورية بالخرطوم !!

بدت الأمور عادية، أو هكذا كان الظن أن تسير على ذلك النحو عندما بدأت الآليات تحفر هناك، وتحاول إزالة بعض الركام القديم عند تلك الناصية منتصف الشارع العريق في قلب العاصمة الخرطوم، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان عندما علقت إحدى الآليات وهوت إلى الأسفل..وهنا كانت المفاجأة كبيرة عندما تكشف وجود ما يشبه النفق أسفل المبنى القديم.. شيد بشكل منتظم يمتد في استطالة إلى الأسفل…لتطل العديد من الأسئلة برأسها، متى بُني وفي أي الأغراض كان يُستخدم ومن شيده، وإلى أي عهد يرجع امتلاكه؟ بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر على الاكتشاف ما زالت تلك الأسئلة تطل برأسها من جديد، ما هو السر الذي دُفن مع ذلك (السرداب) القديم ومن شيده ومتى؟.. ساقني الفضول الصحفي بطبيعة الحال إلى (النبش) في ملف الخرطوم القديمة في محاولة لفك بعض طلاسم الموضوع، واستطعنا وضع بعض النقاط على الحروف، إلا أن العديد من تلك الاسئلة قد تجد إجابات شافية في مقبل الأيام..

إدارة الآثار أكدت في حديثها (للمجهر) أن تاريخ تشييد المبنى ربما يرجع إلى عشرينيات أو ثلاثينيات القرن الماضي بينما تم استبعاد أن يكون قد شيد كنفق، ورجح فريق الآثار المختص أن ما عُثر عليه عقب إجراء فحص أولي للموقع بواسطتهم ربما كان (قبواً) قديماً.
وحسب مدير الهيئة القومية للآثار د. “عبد الرحمن علي” في حديثه لـ (المجهر) أن هيئته أوقفت أعمال التشييد عقب اكتشاف النفق، وتم تكليف فريق مختص من الهيئة والإدارة العامة للسياحة بولاية الخرطوم عمل لمدة أسبوعين بالموقع، مشيراً إلى أن قطعة الأرض المعنية يمتلكها بنك فيصل وبصدد تشييد مبان عليها تخص البنك. وقال إن فريقه وثق للموقع وبعدها سمح للشركة المنفذة بمواصلة أعمالها.
وكشف مدير الهيئة أن ما تم العثور عليه هو (قبو) قديم ملحق به غرفة مستطيلة بنيت من (الطوب الأحمر) وأرجع تشييدها إلى القرن التاسع عشر ضمن مبان الخرطوم القديمة، مشيراً إلى أن منازل تلك الفترة اشتهرت بوجود (قبو) ملحق بالمنازل لخزن المؤن الغذائية وهو نمط معماري تم استجلابه بواسطة الأغاريق والجاليات اليونانية وجاليات أخرى أجنبية كانت موجودة في السودان في تلك الفترة.
وحسب الفريق المختص فإن الجزء الذي يقع أسفل المبنى هو ليس بنفق إذ إن ما وجد هو جزء محصور تحيط به حوائط، وفي نهاياتها أبواب وربما نوافذ تطل أنصافها على الطابق الأرضي، وهنا قطع الخبير “الحسن أحمد محمد الحسن” أمين أمانة الآثار بالإنابة أن ذلك الجزء ربما شيد ليكون (قبو) أو (سرداب) ورجح الخبير استناداً إلى روايات أن المبنى قد يكون استخدمه ملاكه (بار) أسفل مقهى قديم في تلك الفترة!
افتراض أول
نائب أمين أمانة الآثار قال في حديثه لـ(المجهر) إن المعاينات الأولية التي نفذها الفريق المختص أشارت إلى أن المكان ربما استُخدم كمخزن؛ إذ عثر داخله على قوارير مختلفة صنعت من الزجاج كتب على بعضها كلمات باللغة الانجليزية لكن بسبب تهشم العديد من أجزائها لم يتم التمكن من قراءة تلك الكلمات ولا معرفة دلالاتها، وهي الآن بصدد إخضاعها إلى مزيد من الفحص والدراسة، وربما أرسلت إلى معامل بالخارج. وقطع الحسن بصعوبة تحليل ما توفر من معلومات على ضوء ما عُثر عليه مما جعلهم يستندون إلى معلومات أخذ بعضها شفاهة.
وحال الرجوع إلى حديث أمين أمانة المتاحف القائل إن المبنى ربما (سرداب) قديم شيده مالكوه لحفظ مقتنياتهم فإن الأمر قد يكون في إطار المقبول، وهنا ربما يعلم الكثيرون أن السرداب هو غرفة يتم تشييدها تحت الأرض. وحسب الموسوعة الحرة فإن العديد من البيوت العربية التقليدية كانت مزودة (بسرداب)، خصوصا لدى الأثرياء. يوجد نوعان من السراديب، السرداب العلوي وهو تحت البيت وله شبابيك عند السقف تطل على الصحن والسرداب السفلي أو (القبو) وهو تحت الأرض تماماً. وللسرداب غرض ذكي هو التبريد في فصل الصيف حيث تنخفض درجة الحرارة فيه انخفاضا كبيراً عن درجة الحرارة في الخارج مما يجعل الجو فيه بارداً. وغالباً ما يوصل السرداب العلوي (بملاقف) الهواء مما يجعل السرداب مكاناً مثالياً للجلوس والنوم في نهار الصيف، أما في الشتاء فيستخدم كخزانة. ويقال إن ( السرداب) كان معروفاً لدى العرب (السبأيين) ويرجع استخدامه على نطاق واسع إلى العصر العباسي، أما القبو فيستخدم للخزن. وقد يحتوي البيت الواحد على سرداب وشبه سرداب أو أكثر وتتم إضاءة السرداب بواسطة كوات في أرضية الفناء.
ويقول مؤرخون إن السرداب تقليد إلا أنه لا يوجد في العديد من الدول العربية، ويعتمد تصميمه واستخدامه على طبيعة المناخ والتضاريس والعادات في المنطقة، إلا أن مختصين يؤكدون أن الكلمة مستعملة في دول عربية عديدة، وإن كان دول حوض البحر الأبيض المتوسط تستعيض عنها بكلمة (قبو).
افتراض آخر
وحال سلمنا أن ذلك المبنى الغامض بشارع الجمهورية كان (حانة) أي (بار) حسب ترجيح الفريق الذي نقب هنالك، فإن الأمر قد يكون في إطار الممكن، فقد أشار د.”عبد الرحمن علي” مدير الهيئة القومية للآثار إلى أن شارع الجهورية الذي كان يشتهر بشارع (السردار) ويتقاطع مع شارع القصر الشهير سابقاً بشارع (فكتوريا) كان يقع ضمن شوارع القطاع التجاري فيما يسمى بالسوق الأفرنجي في ذلك الوقت. وقطع د. “عبد الرحمن” بأن روايات تم الحصول عليها شفاهة أكدت أن الموقع كان مقهى يقدم المأكولات والمشروبات الروحية في تلك الفترة، وكشف أن النمط المعماري للقبو شبيه بالنمط المعماري لمقابر مملكة علوة.
يضاف إلى ذلك أن مواطنين رجحوا أن تكون تلك المباني القديمة بشارع الجمهورية كانت ملكاً لبعض الأقباط والأغاريق وغيرهم، لكن لا يعلمون من هم الملاك الأوائل لذلك المبنى على وجه التحديد.. وحسب روايات قديمة فإن الأغاريق الذين كانوا يعملون بالتجارة العمومية (البقالات) كانت لهم حانات وسط الخرطوم من بينها حانة (كلورد بايرون) و(شناكا) و(خباز) على شارع الجمهورية. وكانت تلك الحانات (البارات) هي الجزء الداخلي من مقاهي يقدم فيها الشاي والقهوة التركية والنسكافي والمشروبات المعدنية كالليمونادة و(الكيتي كولا)، وقد يفسر هذا سر القوارير الزجاجية التي عثر عليها فريق الآثار الذي عاين الموقع فور اكتشافه قبل ثلاثة أشهر وهي مهشمة (ربما بفعل عامل الزمن) داخل (القبو) أثناء الحفريات.
أما منازل ومحلات الأقباط على سبيل المثال فقد كانت لها شهرتها في ذلك الوقت وهم من أعرق النحل التي استقرت بالخرطوم أواخر القرن الثامن عشر، واستناداً إلى مقالات تتعلق بالموضوع فقد كانوا يمتلكون (حيشان) كبيرة ومباني قديمة مثل حوش (بولص) وكان يقع شرق شارع القصر، وحوش سليم على موقع (الكمبوني) الآن، وعمارة (آل نخلة) الواقعة على تقاطع شارع الحرية مع شارع الجامعة، ولهم منازل عديدة بأحياء الخرطوم المختلفة. واكتسبت تلك الجاليات شهرة واسعة في مجال التجارة مثل تجارة الأقمشة أو (الفاتورة). تحقيق: انعام عامر-المجهر السياسي