ملكة الدار محمد عبد الله .. أول قاصة وروائية سودانية
في حقبة الإربعينات بدأت تتكشف موهبة (ملكة الدار) في الكتابة الأدبية خاصة في مجال القصة القصيرة كنتاج طبيعي لإهتمامها وشغفها بالأدب وإنكبابها على قراءة القصص والادب العربي بشكل عام ، لتكون لها الريادة في هذا المجال كأول قاصة سودانية ، في تاريخ ليس ببعيد عن (معاويه محمد نور) صاحب أول قصة قصيرة مكتملة في بنائها الفني بحسب دكتور / مختار عجوبة وهي قصة (إبن عمه) التي نشرت في السياسة الأسبوعية في مايو 1930 والتي أتبعها بقصة (إيمان) التي نشرت في ذات الجريدة في سبتمبر من نفس العام . في فترة الأربعينات
ومع زخم الحراك الذي أفضى إلى ظهور نواة أول إتحاد نسائي تدفع (ملكة الدار) بإنتاجها الأدبي إلى القراء ، مجموعة قصصية كتبت بأسلوب شيق وسلس يثبت أن في نفس هذا العمل روح أديب اريب . تقدم (ملكة الدار) ثلاثيتها : (حكيم القرية) ، (المجنونة) ، (متى تعودين ) . تفوز (حكيم القريـة) بجائـزة مسابقة الإذاعة السودانية للقصة القصيرة عام 1947 ، قصة تنقل في سرد شيق صراع الثنائيات : العلم والخرافة ، الخير والشر والنهاية التي ينبغي أن تكون أي إنتصار العلم والخير، بينما تفوز قصتها الثالثة بالمرتبة الثانية في مسابقة ركن السودان من القاهرة في وقت لاحق ، غير أنه حري بالقول هنا أن إرهاصات موهبة (ملكة الدار) الأدبية بدأت قبل ذلك بمقالاتها النقدية الرائعة التي كانت تنشرها على صفحات جريدة (كردفان) التي يرأسها الفاتح النور . إن موهبة (ملكة الدار) لم تكن يوما موضع شك فقد أثنى عليها أساتذة أجلاء أمثال الراحلين : محمد عبد القادر كرف ومصطفى شرف وأمنّوا على إمتلاكها ناصية اللغة وعلى إمكانياتها الفنية في الحبكة الروائية ، إضافة إلى أسلوبها الشيق في السرد وإيراد الصور الفنية المحكمة.
في المقابل وبفضل تنقلها في عملها في كثير من أرجاء السودان : سنجة في النيل الأزرق ، كسلا في الشرق ، مدني في الوسط ، أمدرمان العاصمة الوطنية ، ثم الدلنج في الغرب ، إستطاعت (ملكة الدار) أن تقترب أكثر وأكثر من تفاصيل المجتمع وأن تفجر طاقاتها المكبوتة من خلال إقتحامها العمل الإجتماعي فأقامت الندوات والمحاضرات عن العادات والممارسات السيئة في المجتمع السوداني مثل الخفاض الفرعوني والشلوخ وغيرها ، مبصّرة الناس بأضرارها ونتائجها الكارثية ، فاكتسبت لقاء ذلك أرضية صلبة ومؤيدون كثر ، خاصة وأنها كانت تخاطب الناس بلغة سهلة مفهومة دون إستعلاء أو صفوية فكان أن ساهمت بشكل أو بأخر في خلق الوعي بين نساء ذلك الزمان . لقد ساعدها ذلك الاقتراب والالتحام مع مجتمعها من أن يتشكل في ذهنها روايتها القادمة : (الفراغ العريض) رواية أستوفت كل الشروط والمعايير التي تجعل منها رواية كاملة ومع أن الرواية تنتمي في ذاتها إلى جنس السير الذاتية ، إلا أنها إستطاعت بمهارة ومن خلال السرد بضمير المتكلم والمخاطب والغائب أن تقدم نوعا راقيا من الحكي المتعدد الأصوات ، تناولت فيه الوضع الإجتماعي للمرأة في ذلك الزمان والقيود التي كبلتها والعقبات التي كانت تواجهها ولا حاجة هنا للقول بإن هذه الرواية قد سبقت بها (ملكة الدار) روادا للقصة والرواية من الرجال امثال (ابوبكر خالد : بداية الربيع ) و (خليل عبد الله الحاج : إنهم بشر) الذين صدرت أعمالهم في النصف الثاني من الخمسينات .
هنا المقطع الأخير من خاتمة الرواية ( ومادت الأرض تحت قدميها فأستندت إلى الجدار السميك وأحست بعزلة قاتلة وحاجة شديدة للبكاء بل للصراخ ، ودت لو تصرخ وتمــلأ الدنيا صراخا فلم تستطع وأرادت أن تجري وراء العربة في الشارع ولكن قدميها مسمرتان إلى الأرض وهي مشدودة إلى الجدار وبعد لأي وقد تقدم الليل ، إستطاعت أن تتحرك وأخذت تسير في إتجاه بيتها بخطى مضطربة والدنيا مظلمة في وجهها والمرئيات تدور أمام بصرها وتدور ونفسها كسيرة وقلبها مجروح والفراغ عريض عريض ) ص 200 . في تناوله للرواية يقول محمد الفاتح أبوعاقله في مدونته (مطر مطر وقوس مطر) : ( عندما تقرأ هذا النص تقف شخوص الرواية أمامك بكل مكنوناتها ولا يكون دورك سالبا بل تقوم بردم الفجوات والمشاركة في تخلق تلك الشخوص إستنباطا وكشفا) ثم يواصل (لقد وظفت ملكة الدار محمد اللغة في رواية الفراغ العريض توظيفا جماليا وتمكنت من المزاوجة ما بين المحكي اليومي والالفاظ المعجمية المدرسية الفصحى في سبك من السرد السهل الميسور دون معاظلة وتعقير). لقد قدمت (ملكة الدار) نموذجا فريدا مخالفا لكل التوقعات فقد كان الفهم السائد يومها أن المرأة لا تستطيع أن تسهم في رفد العمل الثقافي لما تمر به من ضغوط إجتماعية عصية لكنها خيبت ظن هؤلاء ومن راهن على ذلك الخيار . يختتم (أبوعاقله) تناوله للرواية بالقول بأنها لم تجد حظها من البحث والمناقشة والمدارسة وأن الحكم عليها لم يتعد قوالب النقد الجاهزة بناء على فرضية الحقب التاريخية التي لا ترى في القديم مايشي بملمح من التكنيك الذي يمكن أن ينسب إلى الراهن من التاريخ .
إن قصص (ملكة الدار) في الأربعينات وروايتها (الفراع العريض) في أوائل الخمسينات تضعها في الواقع ضمن أول عشرة رائدات كتبن القصة والرواية على مستوى العالم العربي ، مع العلم أن التوثيق للقصة والرواية العربية النسائية عموما يبدو غامضا وفيه كثير من الإلتباس فهناك العديد من الأسماء التي برزت ضمن السياق التاريخي لهذا النوع من الأدب دون أن يتم التعرض لأعمالها أو التحقق من تواريخ ظهورها ومن هذه الأسماء : زينب فواز ، عفيفه كرم ، لطيفه الهاشم وغيرهن ولكن مع وضع هؤلاء في الإعتبار فإن (ملكة الدار) ليست بعيدة بأي حال عن هذه اللائحة الشرفية. صحيح أن إنتاج (ملكة الدار) لم يك غزيرا لكنه أسس لتاريخ القصة والرواية في هذا البلد ومهّد الطريق لشيوع هذا النوع من الأدب فكان أن جاء – وإن كان من بعد غياب- روائيات حملن الراية وأبلين بلاء حســنا أمثال : زينب بليل ، بثينه خضر ، نائله فزع وأخريات ربما لا تستحضرهن الذاكرة الآن .
لقد كان إيمان (ملكة الدار) بالأدب كقضية إيمانا عميقا بحيث أنها ظلت وفية لخدمته في كل محفل وقد قادها حبها للأدب إلى إرتياد الندوة الأدبية التي أسسها الراحل (عبد الله حامد الأمين) وهي الندوة التي كان يرتادها النخبة من الادباء والشعراء في ذلك الزمان حيث كانت محل الإحترام والتبجيل من الجميع . هنا صورة تقريبية رسمتها إحدى تلاميذتها للمعلمة (ملكة الدار) . تقول بدور عبد المنعم ( ورغما عني يقفز إلى الخاطر وجه داكن السمرة تطل منه عينان ما أن تنظر اليهما برهة حتى يعتريك إحساس غريب هو مزيج من الشفافية ورهافة الحس والطمأنينة ، إنها المعلمة الأولى – ملكة الدار محمد – التي أرضعتني ورفيقاتي عشق اللغة العربية شعرا ونثرا ) .
إن موهبة (ملكة الدار) لم تقف عند كتابة القصة والرواية بل كانت لديها مواهب أخرى مثل تلحين الأناشيد المدرسية بجانب حبها للغناء ، كما أن الكثيرين قد لا يعلمون بأنها كانت عازفة بارعة على البيانو والمزمار في وقت كان من الصعب فيه إن لم يكن من النادر العثور على آلة مثل البيانو في ذلك الزمان ناهيك عن التعلم والعزف عليه . لقد ترقت (ملكة الدار) في عملها حتى وصلت درجة (مفتش تعليم) وأستمرت في نشاطها العملي والأدبي حتى رحلت عن دنيانا الفانية في 17 نوفمبر 1969 ، مخلفة وراءها عملا أدبيا ثمينا وضعت به بصمتها على دفتر الأدب السوداني ، أمر يستحث الجهات المعنية إلى تبني جمع وإعادة طباعة جميع أعمالها القصصية والروائية والنقدية في مجلد واحد حتى يسهل الرجوع إليه وإتاحة الفرصة للإجيال القادمة للتعرف عن كثب على أعمال هذه الرائدة الرائعة التي تفوقت في مجالي القصة والرواية .
محمد السيد علي