رأي ومقالات

د. محمد وقيع الله: الطبقة الجديدة في الإنقاذ «2»


[JUSTIFY]نهض في العصر الحديث منظر يوغسلافي بارز ليجدد فكر ابن خلدون في التحليل الطبقي.
وهو الفيلسوف الماركسي السابق ميلوفان ديجيلاس صاحب الكتاب الفذ «الطبقة الجديدة».
وقد كان تكوين مثل هذه الطبقة من المتخمين في المجتمع السياسي الشيوعي في يوغسلافيا محط نظر نافذ وتحليل دقيق من هذا الفيلسوف.

كان ديجلاس زعيماًً مناضلاً شارك في أعمال المقاومة الوطنية في أسبانيا خلال الحرب الأهلية ضد الجنرال فرانكو، وأسهم في قيادة المقاومة العسكرية الشعبية في بلاده ضد الغزو الهتلري قبيل الحرب العالمية الثانية، وتسنم مناصب عليا في قيادة الحزب الشيوعي، إلى أن اختير نائباً للرئيس اليوغسلافي الأسبق جوزيف بروز تيتو، وعين عضواً في المكتب السياسي للحزب، وعضواً بالمجلس الأعلى للدفاع الوطني.

وكانت هذه الوظائف كفيلة بجلب الغرور إلى قلبه حتى يتعالى على كل اعتبار.
وحتى يبيح لنفسه أن يتصرف بمقدرات البلاد وكأنه مالك لها أو صانع لها.
ويتمادى به هذا الشعور وهذا السلوك حتى ينطبق عليه المثل القائل: «حاميها حراميها»!
غير أنه ظل نقياً وفياً للحلم البراءة الأولى، وصوَّب نظراً نقدياً صارماً إلى أعماله، وأعمال رفاقه المناضلين الذين تحولوا إلى موظفين، حيث راعه أن الحركة الماركسية التي آمن بها عن اقتناع لا تبني إلا أسوأ مما تهدم.
وتأمل حصيلة الأفكار النظرية للحزب، وشرع يسطر مقالات فاحت منها رائحة النقد لأوضاع نجمت عن التطبيق، وتبين له أنها لم تنجم عن سوء التطبيق وإنما عن خلل خطير في التنظير.
وأصبح كتابه الذي حمل عنوان «الطبقة الجديدة» أخطر ما قدمه في نقد الماركسية إذ أصابها بمقتل في الصميم.
فأكد أن ماركس وأنجلز لم يبتكرا النظرية الشيوعية، وإنما نسقا مجموعة أفكار الماديين الفرنسيين كما استفادا من جدل هيجل.
وأما دعوى الشيوعيين بأن قوانين العلم المادي غير قابلة للتغيير، فإن أول من ينقض هذه الدعوى هم الماركسيون أنفسهم، إذ حالما يستمسكون بالسلطة يتصرفون حيال المجتمع الإنساني بصورة مناقضة لمبدأ التسليم بالقوانين الموضوعية.
ويفرضون بأساليبهم الدكتاتورية ما يشاءون من السياسات، ولا سيما سياسة الثورة الدموية، والعمل على التصنيع السريع، اللذين حملا معهما الأساليب الإرهابية والعنف الذي لا يرحم.

الأتباع في خدمة السادة وأخطر ما في كتاب دجيلاس، هو تأكيده أن السياسة العنف وحمامات الدم قد قادت إلى قيام طبقة جديدة من المتنفذين البيروقراطيين، وهذا عين التناقض في الفكر الماركسي، إذ بينما يدعو هذا الفكر إلى محو الطبقات إذا به يؤدي بوسائله الخاصة إلى خلل طبقي وتكوين طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة المستفيدين من النظام.
يقول ديجلاس إن هذه الطبقة المتنفذة تنمو مسبقاً في قلب الحزب الشيوعي، وتتبلور خلال الثورة، وتتمركز نواتها الأولى في قلب المجتمع مع انتصار الثورة، وتحويل الحزب الى جهاز حكومي مهيمن، وتحول كوادره إلى رجال أعمال، ووكلاء شركات، ومتعهدي عطاءات، همهم الاحتكار والاستحواذ.
وذكر أن الطبقة الطفيلية لا تسعى أبداً إلى مساعدة الطبقة البروليتارية وتحسين عيشها، بل تهدف إلى إبقائها في أوضاعها السيئة، ودفعها إلى مزيد من التضحية بخدعة الإسراع في بناء المجتمع الشيوعي.
وهكذا:« فإننا نجد أن أبناء الطبقة العاملة، هم أكثر القوى ثباتاً في خدمة الطبقة الجديدة، وليس هذا من الأمور المستغربة، فلقد قضت أقدار العبيد على الدوام، أن يكونوا من أكثر المتحمسين لخدمة أسيادهم، وفي هذا الوضع الجديد تظهر على المسرح طبقة جديدة مستغلة حاكمة من صلب الطبقة المستقلة».
وهذه الطبقة المستقلة تقوم على تنظيم خاص وسلطة مميزة، وينطبق عليها أي تعريف علمي للطبقة، وحتى التعريف الماركسي نفسة يعبر عنها بحديثه عن انخفاض مستوى بعض الطبقات عن سواها من الطبقات الأخرى.

ضعف كفاءة الطبقة الجديدة ومع تشارك هذه الطبقة الجديدة مع الطبقة البرجوازية في اقتناص الامتيازات، إلا أنها أقل منها شأناً في الذكاء والمراس الاقتصادي. فالبرجوازيون يتصرفون بذكاء ودهاء وحنكة ومسؤولية، ويحدوهم في نشاطهم التجاري والاستثماري المنطق الاقتصادي العقلاني وحسابات الربح والخسارة الدقيقة، ولا يمكن أن يقدموا على تصرفات لا مسؤولة تعرض رؤوس أموالهم السائلة أو المنقولة إلى الخسائر والأخطار، ولا يمكن أن يتصرفوا بلا احتياط ولا خوف ولا اكثراث كما تصرف بعض رجال الطبقة الجديدة عندنا، عندما يقدمون على العبث بممتلكات الدولة ومشروعاتها لتحقيق أرباح شخصية عاجلة كما يحدث في كثير من الأحيان.
وكما حدث بسخرية بالغة وتحد فظيع للسودان كله عندما أقدم بعض أفراد الطبقة الإنقاذية الجديدة ببيع خط شركة الخطوط الجوية السودانية بمطار هيثرو بصورة سرية مشبوهة، ذهب أكثر عائدها إلى جيوب بعض المتنفذين من أفراد الطبقة الجديدة، وأقله رجع إلى الدولة أو إلى رأسمال الشركة.
هذا مع ملاحظة أن الخط المبيع ربما كان أقيم ما تملكه الشركة الحكومية، أو ربما هو أقيم منها كلها.
وما أقدم هؤلاء على فعلتهم إلا وهم آمنون من التعرض لعقاب، فكل من انتمى إلى هذه الطبقة الجديدة الفاسدة في الإنقاذ يتعاطف معهم، وإن حدث أن تعرضوا لمكروه، أي لو اكتشف أمرهم وافتضح وتعرضوا لأسوأ الاحتمالات، وهو احتمال المحاكمة السياسية أو القضائية، فلهم من فائض أرصدة أموالهم التي جنوها من بيع ذلك الخط، ما يمكنهم من توظيف أكفأ المحامين الفاسدين، اللصيقين بهم، ليختلقوا ويلفقوا وينسقوا لهم حيثيات دفاع مجيد، تنجيهم كما نجا فاسدون كثيرون من أمثالهم من العقاب.

كيف تخلى عن عقيدته؟ وقد كان تأمل دجيلاس لمراحل تشكل هذه الطبقة الجديدة وسط القاعدة الصلبة لحركة النضال الشيوعي وانخراطها في الفساد بجرأة مدهشة داعياً لتراجعه عن الفكرة الشيوعية ذاتها.
وهنا قال: «أقول بإخلاص إنني اعتنقت الشيوعية بملء إرادتي، ووفق اعتقادي، وبكامل حريتي. إلا أنني ابتعدت عن الحركة الشيوعية نتيجة إصابتي بنكسة في آمالي، وقد جاء ابتعادي هذا بصورة تدريجية وواعية، بالطريقة التي أرسمها، والنتائج التي أخلص إليها في مؤلفي هذا«.
وذكر أن الشيوعية لم تقدم بديلاً فاضلاً ولا أفضل من المجتعمات الرأسمالية.
فلا هي حققت العدالة والمساواة ولا حافظت على حريات المواطنين.
ولا أقامت مؤسسات للرقابة السياسية والإدارية مكنتها أن تكبح جماح الفساد وتحافظ على حقوق الناس.
وعن ضعف البرلمانات في المجتمعات الشيوعية وصوريتها قال: «إن الانتخابات التي تجري في ظل الحكم الشيوعي مهزلة وأبهتها الفارغة معروفة تماماً، إنها سباق يعدو فيها حصان واحد. إنها فارغة من أي معنى أو محتوى، إن الذين يفوزون فيها هم المنتقون بعناية فائقة من قبل الحزب الشيوعي الحاكم. وأما البرلمان فهو هيكل صوري مهمته تنفيذ مقررات القيادة الحزبية العليا. ولا يملك أعضاء البرلمان الجرأة لبحث القضايا الهامة في جو من الحرية. إن أبلغ وصف للبرلمانات الشيوعية أن يقال: هي قبور للنواب».
وهو وصف وإن كان لا ينطبق على برلمان الإنقاذ إلا أنه يمكن أن يقارن به.
فكم عجز عن ملاحقة بعض أفراد هذه الطبقة الجديدة المتنفذة عندما حاول ذلك أحياناً.
خاتمة
لقد استعرضنا فيما مضى مواطن العبرة من كتاب دجيلاس لننتفع بها في دفع بلاء
هذه الطبقة الإنقاذية السرطانية.
والسعيد من اتعظ بمثل هذا الكتاب الذي لم يعتبر به أهله حتى خر عليهم السقف من فوقهم.
ونقول إن هذا هو الوقت المناسب ليتوقف الإسلاميون عن مجاملة أقطاب هذه الطبقة الجديدة الفاسدة، وليبذلوا جهداً قوياً في مقاومتها.
فمن المحتمل أن تتغلب عليهم هذه الطبقة المستشرية إن تأخر الوقت.
ومن المرجح أن تعمل هذه الطبقة مع استشراء فسادها على حماية نفسها بمزيد من التحكم السياسي، الذي يعتدي على حيز الحريات المتاح، ويسيطر على أجهزة أخرى في الدولة، ليس أقلها شأناً الجهاز القضائي.

صحيفة الإنتباهة[/JUSTIFY]


تعليق واحد

  1. يا جماعة فى معلق كتب سابقا ان هذا الرجل يسعى سعيا حثيثا للتوزير او على الاقل ان يكون معتمدا………عشان كده كلمايكون فى حديث عن تعديل وزارى يكتب مقالات ليقول انا موجود……….الان تأكدت من كلام ذلك المعلق