تحقيقات وتقارير

الشقاء العربي في شمال أفريقيا .. “وأين الفوز ؟؟!! لا مصر استقرّت على حال ولا السودان داما”

[JUSTIFY]يتكرر المشهد في بلدان شمال أفريقيا المطلة على ساحل المتوسط شرقاً والبحر الأحمر شرقاً، وتبدو صورة الشقاء العربي واحدة هنا وهناك. تتعاظم الخلافات ويتعاظم معها الشقاق، ويتحول الحوار الوطني “إلى حوار من أجل الحوار”، “يتيه في متاهات المفردات”.

عام 1947، استعاد محمد عبد الوهاب قصيدة يخاطب فيها أحمد شوقي الملك فؤاد، داعيا إلى وحدة بلاد النيل، متسائلاً: “وأين الفوز لا مصر استقرّت على حال ولا السودان داما”. تحوّلت عبارة “أبا الفاروق” على لسان “موسيقار الأجيال” إلى “فيا فاروق”، وباتت أغنية “إلامَ الخلف” نشيداً بديعاً يدعو الى اصلاح ما أصاب البلاد من انقسام. كانت هذه الأغنية آخر أعمال عبد الوهاب الوطنية “الملكية”. في الخمسينات، تبنّى مطربنا روح ثورة يوليو وشعاراتها مبكراً، وتابع مسيرته، وكان أوّل أعمال تلك المرحلة “نشيد الحرية” لكامل الشناوي، والشائع أنه سُجّل أولاً عام 1951 حين ألغى رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا معاهدة 1936، وكان مطلعه: “أنت في صمتك مرغم/ أنت في صبرك مكره/ فتكلم وتألم وتعلم كيف تكره”. حُجب النشيد بعد إذاعته بسبب تعابيره “الثورية” كما يُقال، وأعاد عبد الوهاب تسجيله في العهد الجديد، وبات المطلع: “كنت في صمتك مُرغم”، وفيه تعلو الصرخة: “”هات أذنيك معي واسمع معي/ صيحة اليقظة تجتاح الجموع، صيحةً شدّت ظهور الرُّكًّع/ ومحت أصداؤها عار الخضوع”. بعدها، أنشد عبد الوهاب من كلمات مأمون الشناوي “نشيد الوادي”، وفيه تكرّرت الدعوة إلى وحدة بلاد النيل: “عاشت مصر حرة والسودان/ دامت أرض وادي النيل بأمان/ عاشت مصر حرة والسودان/ اعملوا تنولوا واهتفوا وقولوا/ السودان لمصر ومصر للسودان”.

في نهاية عام 1955، اجتمع البرلمان السوداني وأعلن استقلال دولة السودان، وطالب مصر وبريطانيا بالاعتراف بهذا الاستقلال. تحقّق هذا المطلب بسرعة، وتمّ الجلاء، ورُفع العالم السوداني في اول ايام 1956، ودخلت البلاد في مرحلة جديدة واجهت فيها تحديات كثيرة. فشلت الأحزاب السودانية في الوصول الى صيغة توفيقية تحدد نظام الحكم كما فشلت في كتابة دستور جامع، كما اخفقت في تقديم حل لمشكلة جنوب البلاد، فتدخّل الجيش وأقصاها عن الحكم، واستولى على السلطة في خريف 1958. تكررت الحكاية، وتوالت الانقلابات العسكرية على مدى عقود من الزمن لم يعرف فيها السودان الاستقرار لا في ظل الحكومات الديموقراطية المتعثرة، ولا في ظل الحكومات العسكرية. في نهاية الثمانينات، استولت “الجبهة الإسلامية” على السلطة باسم “ثورة الانقاذ الوطني”، وتفاقمت مشكلات البلاد، وتردّت علاقاتها الخارجية. استمر مسلسل الخلافات والحروب الداخلية. في مطلع عام 2005، عقدت الحكومة “اتفاق السلام الشامل” مع “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، ونص أهم بنود هذا الاتفاق على حق تقرير المصير للجنوب، وتقاسم السلطة والثورة بين الشمال والجنوب. في مطلع 2011، تمّ الاستفتاء على تقرير المصير، وصوّت الجنوبيون للانفصال. كان السودان اكبر بلاد العالم العربي وافريقيا من حيث المساحة الجغرافية، وبات بعد الانفصال ثالث اكبر بلد. انفصلت السودان عن مصر في منتصف الخمسينات، وباتت وحدة وادي النيل أشبه بوهم جميل يشهد له عبد الوهاب بقصائد مغنّاة من نظم أحمد شوقي ومأمون الشناوي. هنا وهناك، يتواصل مسلسل النكبات في الوادي الذي يعبر النهر الخالد، وتغرق البلاد في الحروب الصغيرة التي لا تنتهي. في آخر الأخبار، أكدت مصادر سودانية معارضة تصاعد حملة الاعتقالات التي تقوم بها قوات الأمن السودانية في صفوف معارضيها في محاولات لإخماد موجة الاحتجاجات التي عمّت البلاد، فيما دعت “الفيديرالية الدولية لحقوق الانسان في الاتحاد الإفريقي” إلى إرسال لجنة تحقيق عاجلة إلى السودان لرصد الانتهاكات الخطيرة التي وقعت أثناء التظاهرات.

الشقاء الليبي يتكرر المشهد نفسه في ليبيا، هذه البلاد الشاسعة التي شبّهها الجغرافي ستاربو في القرن الأول قبل الميلاد بجلد الفهد، “إذ إنها منقّطة بمواطن مأهولة محاطة بأرض صحراء لا ماء فيها”. في القرون الوسطى، شكّلت هذه البلاد الصحراوية همزة وصل بين وسط أفريقيا وسواحل المتوسط، وبين الشرق والغرب، وتعاقبت على حكمها سلالات وإمارات تعود إلى أصول مختلفة، وتحوّلت مستعمرة إيطالية حتى عام 1947. ثار الشيخ السنوسي عمر المختار على أسياد البلاد الجدد، وقاتلهم على مدى عشر سنين، إلى أن تمكنوا منه وحكموا عليه بالإعدام شنقاً، ونُفّذ فيه الحكم في أيلول 1931 أمام عشرين ألفاً من أهل البلاد، وذلك إثر صعود موسولوني إلى سدة الحكم. من مفارقات التاريخ، اعتبرت إيطاليا نفسها وارثة الإغريق والرومان في هذه البلاد، فأطلقت عليها من جديد اسم “ليبيا” المنسي بعد توحيد ولاياتها الثلاث، طرابلس وبرقة وفزان، وعمدت إلى تحديث هذه المناطق، فأسست المرافق العامة الأساسية، وشقّت الطرق والموانئ والسكك الحديد، وبنت عدداً من المستشفيات والمدارس، ورممت أطلال مدنها الأثرية، وذلك لتأكيد “شرعية” استعمارها هذا الجزء الحيوي من أفريقيا. من جهة أخرى، أنشأ حاكم ليبيا إيتالو بالبو في عام 1938 عشرين قرية خاصة بالإيطاليين القادمين حديثاً إلى ليبيا، وكان عددهم عشرين ألفا، وسعى إلى كسب رضا أهل البلاد من العرب والبربر، فأنشأ لهم عشر قرى أُطلقت عليها أسماء عربية، منها منصورة، خضرا، جديدة، ومعمورة.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، تقاسم البريطانيون والفرنسيون إدارة شؤون الحكم في المناطق الليبية. عام 1947، أعلنت إيطاليا رسمياً تنازلها عن “أراضيها” في أفريقيا، وتبع هذا الإعلان إقرار باستقلال ليبيا في عام 1949. في نهاية 1951، حملت الدولة الناشئة اسم “المملكة الليبية المتحدة” إثر إقرار الدستور الليبي “تحت تاج الملك محمد إدريس المهدي السنوسي الذي بايعه الشعب”، وأكّد نصّ هذا الدستور “تكوين دولة ديموقراطية مستقلة ذات سيادة تؤمن بالوحدة القومية، وتصون ‏الطمأنينة الداخلية، وتهيئ وسائل الدفاع ‏المشتركة، وتكفل إقامة العدالة، وتضمن مبادئ ‏الحرية والمساواة والإخاء، وترعى الرقي الاقتصادي والاجتماعي ‏والخير العام”. انضمّت المملكة الليبية إلى جامعة الدول العربية في عام 1953، ودخلت بعد سنتين هيئة الأمم المتحدة، وبدأت مرحلة جديدة من تاريخها عند اكتشاف البترول في أراضيها عام 1959، ومع تدفق الذهب الأسود، غدت أغنى دول شمال أفريقيا.

حكم إدريس السنوسي هذه المملكة الناشئة، وغنّى له عبد الوهاب عام 1962 من شعر عزيز أباظة أغنية “عهد اليسر”، مطلعها: “فاخر بإدريس العظيم وقل أعزّ الله عهدك/ وحباك بالعمر الطويل مجدّدا وأتمّ سعدك”. دام عهد إدريس حتى أيلول 1969 حين أطاح الجيش عرشه في انقلاب أبيض. أسقطت الحكمَ الملكي مجموعة من الضباط أطلقوا على أنفسهم اسم “الضباط الأحرار” تيمناً بالحركة المصرية التي أطاحت الملكية في مصر عام 1952، وحملت الحركة الليبية في مرحلة لاحقة اسم “ثورة الفاتح من سبتمبر”. تحوّلت المملكة الليبية إلى “الجمهورية العربية الليبية”، وتسلّم حكمها العقيد معمر القذافي القائد الأعلى للقوات المسلحة. مزج العقيد بين القومية العربية والاشتراكية، فأمّم المصارف الأجنبية، وسيطر على الشركات النفطية الأوروبية والأميركية، وتحوّلت الجمهورية في عهده “جماهيرية” حكمها على هواه مدى أكثر من أربعة عقود. في شباط 2011، ثارت ليبيا على حاكمها الأخضر، ونزعت علمه، ورفعت من جديد علم استقلالها القديم. وفي 23 أكتوبر أعلن رسميا تحرير ليبيا بعد مقتل القذافي في مدينة سرت، مسقطه.
لم تهنأ ليبيا طويلاً بهذا الاستقلال، اذ عادت وغرقت سريعاً في حروبها القبلية المستفحلة، وسئم المراقبون من متابعة هذا المسلسل الذي لا ينتهي. في الشهر الفائت، أعلنت بعض قبائل الجنوب الليبي في مدينة أوباري الصحراوية أن منطقة الجنوب أصبحت إقليماً فيديرالياً يحمل اسم “إقليم فزان الفيديرالي”، وجاء هذا الإعلان بعد أشهر من إعلان تأسيس “إقليم برقة الفيديرالي” في شرق ليبيا. من جهة أخرى، اتهم رئيس المكتب السياسي لإقليم برقة الليبي الفيديرالي إبرهيم الجضران “الإخوان المسلمين” بالسيطرة إدارياً على النفط، واكّد أن وقف ضخ النفط جاء بهدف منع سرقته على أيدي مسؤولين نافذين في الحكومة والبرلمان.

متاهات المفردات في تونس الخضراء التي شهدت انطلاقة ما عُرف بـ”الربيع العربي”، يستمر الصراع على السلطة بين الاسلاميين والمدنيين. في هذا السياق، أعربت أمينة “الحزب الجمهوري التونسي المُعارض” مية الجريبي عن خشيتها من أن يتحول الحوار الوطني في بلادها “إلى حوار من أجل الحوار، ويتيه في متاهات المفردات بعيداً من البحث عن حلول جدية لإنقاذ البلاد من المأزق الذي بات يُهدد أركان الدولة”. ووصفت الأزمة التي تتواصل فصولها السياسية والإقتصادية والأمنية والإجتماعية منذ إغتيال النائب المعارض محمد براهمي بأنها “أزمة مصيرية بكل ما للكلمة من معنى”، ورأت أن هذه الأزمة “تسبب فيها إئتلاف حاكم فشل فشلاً ذريعاً في إدارة شؤون البلاد، حتى أصبحت الدولة مُهددة، وهي أزمة ناتجة من عجز الإئتلاف الحاكم عن تحقيق الأمن والعيش الكريم للمواطن، ومن إصراره على الهيمنة على مفاصل الدولة والمجتمع”.
تلك حال افريقيا العربية التي تتخبط في حروبها الداخلية في انتظار عودة مصر الى قيادتها، ومصر غارقة هي الأخرى في المستنقع نفسه. مع حلول ذكرى “انتصار 6 اكتوبر”، تجددت الاشتباكات المتواصلة بين رجال الامن ومعارضين لجماعة “الاخوان المسليمن” من جهة وبين متظاهرين من الجماعة في مناطق عدة من مصر، واعلن رئيس هيئة الاسعاف ان عدد حالات الوفاة بلغت خمس عشرة حالة. عادت صور عبد الناصر والسادات في هذه الاحتفالات، ورُفعت إلى جانبها صور وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في انحاء ميدان التحرير، على رغم انه لم يلعب دوراً يُذكر في حرب أكتوبر التي اجلت الإسرائيليين من سيناء. في ضوء هذه الأحداث، رأت صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” الأميركية ان الاشتباكات بين أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي وأنصار الفريق اول عبد الفتاح السيسي تستمر في وقت يحتدّ السجال “حول ما إذا كانت القيادة العسكرية الحالية ام الإسلاميون المعزولون هم الأفضل لتجسيد الهوية الوطنية للمصريين”. هكذا يعود الصراع على الحكم بين المشير والمرشد، ويظل الخيار محصوراً بين حكم “الإخوان” وحكم العسكر.

يتكرر المشهد نفسه في النواحي الأخرى من أفريقيا العربية. يتساقط حلم الوحدة، وتتفكّك الدول، ولا تجد الأصوات الداعية إلى عروبة ثقافية سياسية تعددية وديموقراطية وعلمانية أي صدى. تمتد الحرب الدائرة بين السنّة والشيعة في بلاد الرافدين، وتبلغ بلاداً بعيدة لم تعرف هذا الصراع من قبل. في الجزائر، أعلنت “جبهة الصحوة الحرة الإسلامية” السلفية رفضها للاتفاق الأمني الذي وقعته الجزائر مع إيران في مجال “مكافحة الإرهاب” والجرائم بكل أشكالها. وفي رسالة وجهها إلى رئيس الشرطة الجزائرية اللواء عبد الغني هامل، قال زعيم الجبهة عبد الفتاح حمداش “إن الإتفاق الأمني في التعاون بين الشرطة الجزائرية والأمن الشيعي الصفوي الفارسي الإيراني في مجالات مكافحة الجريمة العابرة للحدود ومكافحة الجرائم المستجدة الجرائم المعلوماتية لا يستقيم دينا ولا عقلا ولا عرفا ولا مذهبا”. وأضاف موضحا: “ان أهل السنّة على مذهب سنّي يعادي كفر الشيعة وضلالات الروافض وجرائم الصفوية ومذابح الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران الفارسية المجوسية”، “فكيف نتفق نحن السنّة وهم الشيعة على قواعد مشتركة عمليا ميدانيا؟ والفريقان لا يجتمعان على مذهب أو تعريف جريمة أو تحديد ما يسمّى الإرهاب عند الروافض وعند أهل السنّة”.[/JUSTIFY]

محمود الزيباوي
النهار
ت.ت