جعفر عباس

إلى بريطانيا على حساب ألمانيا

[JUSTIFY]
إلى بريطانيا على حساب ألمانيا

ما لا أفهمه حتى اليوم هو كيف وقع الاختيار عليّ لدراسة إنتاج البرامج التلفزيونية التعليمية في لندن في عام ١٩٧٦، فقد دخلت الحياة العملية بعد التخرج في الجامعة كمدرس للغة الإنجليزية في المرحلة الثانوية، في عهد الرئيس المفدى المهيب المهول الخطير المشير جعفر نميري، ثم دخلت السجن في عهده بوصفي معارضا لحكمه، أي أنني لم أكن مسنودا سياسيا أو حتى وظيفيا لأفوز بتلك المنحة الدراسية التي كانت مقدمة من حكومة ألمانيا الغربية (طبعا قبل وحدة الألمانيتين)، وكنت عندما تم إبلاغي باختياري للسفر إلى لندن للدراسة ثمانية أشهر معلما في مدرسة الخرطوم بحري الثانوية للبنين، وهي المدرسة التي قضيت فيها أطول مدة من سنوات خدمتي في وزارة التربية وكان لها – وسيظل – مكان خاص في وجداني، لأنني شديد الانتماء الى الخرطوم بحري وأفضلها على الخرطوم الأصل وتوأمها أم درمان، لأنني ولدت فيها ولأن معظم أهلي يقيمون بها، وما زالت إلى يومنا هذا مدينة هادئة ووادعة مقارنة بضلعي مثلث العاصمة السودانية الآخرين.

كان الأستاذ عبدالله علي عبدالله مدير المدرسة هو «أمين أمانة المهنيين» في التنظيم السياسي الذي أنشأه نظام نميري «الاتحاد الاشتراكي السوداني»، وكان يعرف أنني من «أرباب السوابق»، وكنت – ككثيرين غيري من أسرة المدرسة – نجاهر أمامه بعدائنا للحكومة، ولكن كان ذلك زمان لم تكن فيه الخصومة السياسية تقود إلى الكيد والوشاية للأجهزة الأمنية والطرد من العمل.. المهم ان السيد المدير استدعاني ذات يوم وطلب مني الذهاب إلى وزارة التربية، لأنه تم ترشيحي لبعثة دراسية في بريطانيا، ولأنني كنت أداعب الأستاذ عبدالله كثيرا فقد قلت له: خلاص عملتها فيني؟ أتوكل على الله وأروح وزارة الداخلية لأنني مرشح لبعثة دراسية في سجن كوبر؟ ولكنه أكد لي أن الأمر جدي، وطلب مني بالتحديد أن أذهب إلى مكتب الأستاذ الطيب السلاوي.

وذهبت إلى مكتب السلاوي «بالتاكسي الذي لم أكن أتعامل معه إلا مرة واحدة في أول كل شهر».. ووجدت ملف خدمتي أمام السلاوي، الذي أكد لي أنه وقع علي الاختيار للسفر إلى لندن ضمن مجموعة تتألف من خمسة أشخاص لدراسة الإنتاج البرامجي التلفزيوني، وأنني بموجب هذا الترشيح تم نقلي إلى إدارة التلفزيون التعليمي للتدرب قبل السفر إلى لندن، وكانت تلك أول مرة أقابل فيها السلاوي رغم أنني سمعت عنه كثيرا كمعلم متميز، وخاصة أنه كان قد التحق بأسرة التدريس في مدرسة وادي سيدنا الثانوية بعد مغادرتي لها مطرودا بسبب عضويتي في اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلاب الذي كان يعارض «الحكومة» وقاد إضرابا عن الدراسة… (يتضح من كل هذا أنني ولدت ونشأت معارضا لـ«الحكومة» وقلت مرارا وأقولها ثانية: لم تأت على السودان منذ «استغلاله» حكومة تستحق التأييد).. بعبارة أخرى لم تكن هناك «سابق معرفة» بيني وبين السلاوي، وعرفت لاحقا أن الرجل أتى بملفات معلمين شباب ودرسها واختار من اختار من واقع ما يقوله كل ملف عن صاحبه، وأن زميلي لاحقا، هو عبدالعزيز محيي الدين كان الشخص الذي اختارني عند فرز الملفات، ولم تكن تربطني به وقتها صلة من قريب أو بعيد.

فرغم أن نميري وصل إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري فإنه خلال سنواته الأولى في الحكم لم يمس مؤسسات الدولة، فظل العمل فيها يسير «حسب الأصول واللوائح»، وبالتالي كانت الخدمة المدنية على درجة عالية من الكفاءة والنظافة، لخلوها من المحسوبية والفساد الإداري والمالي.

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email][/JUSTIFY]

‫3 تعليقات

  1. مع احترامى الشديد لك يااستاذ الا اننا نرى ان الغالبية العظمى من جحافل المبتعثين السودانيين على حساب موارد البلد الشحيح او حتى على المنح لم يرجعوا الى السودان لسداد جزء من الدين ومن عاد اما وضع فى غير مكانه او خرج مرة اخرى ولم يستفد السودان من مبتعثيه كالدول الاخرى واما المرحوم النميرى العفيف اللسان الطاهر اليدين الغيور على وطنه ورحل عن دنيانا ليس له مال ولا بنون ولا دار ونحن ظلمناه كثيرا جريا وراء الشيوعيين والاحزاب وندمنا على ذالك

  2. المعلم و ما أدراك ما المعلم ؟؟ أذكر أنني في صغري كنت متميزاً في الإملاء و الخط العربي : الكوفي , النسخ الرقعة إلخ … وكان لدينا أحد المعلمين الجدد في المدرسة و طلب منا في درس الإملاء أن نكتب قطعة إملائية كثيرة الأحرف و الجمل المهموزة (المنتهية بهمزة) وقال الذي يكتب القطعة خالية من الأخطاء وصحيحة تماماً سوف أعطيه مبلغاً من المال !! المهم أنني أنا من تفوق من الطلاب وكتب االقطعة الإملائية بلا أخطاء!!! لدرجة أنه قبلًني أمام الطلاب وقال لي : أنت صحيح اللغة بالفطرة .. وبعدها لم ولن أنسى موقفه الجميل معي لدرجة أنني كلما ذكرته دعوت الله له بأن يوفقه و يسدد خطاه أينما حل و إرتحل .. تحياتي لك و للقراء الأعزاء .

  3. الله يرحم والدي الاستاذ عبدالله علي عبدالله رحمة واسعة وجميع موتي المسلمين