عريس ممنوع من التجول
لأن نظام المشير جعفر نميري قطع العلاقات مع بريطانيا، وأوقف الرحلات الجوية منها وإليها عبر مطار الخرطوم، بعد أن استعددت بالكامل للسفر إلى لندن للدراسة، صرت محبطا وحزينا، وكنت – في سياق الاستعداد للسفر – قد أقدمت على حماقة تمثلت في توزيع معظم قمصاني وبنطلوناتي على الأصدقاء، لأنهم أقنعوني بأنها لا تصلح للاستخدام في لندن، وقالوا لي بالحرف الواحد: ما تشرط عيننا بهدومك دي في لندن، وترجمتها بالفصحى: ملابسك تكسف فلا تحرجنا بارتدائها هناك، وهكذا عندما قررت الزواج (عقد القران) وليس المراسيم بأكملها، اضطررت إلى شراء ملابس جديدة ليس فقط لزوم القيافة كعريس، ولكن كي يتسنى لي مغادرة البيت ومخالطة الناس لسبّ وشتم الحكومة، ومظهري لائق إلى حد ما.
مجرد ابرام عقد الزواج يعني أن الطرفين صارا شرعا وقانونا زوجين ويحق لهما ان يعيشا تحت سقف الواحد، ولكن «العادة غلبت الشريعة» كما نقول في السودان، فما لم تلتزم بطقوس الزواج المعقدة وتولم الولائم، فإن أهل زوجتك قد يضربونك حتى لو دعوت عروسك لتناول وجبة في فندق، بعد عقد النكاح وقبل اكتمال الطقوس، وللمرة الأولى أصبحت من أنصار التعقيدات في الزواج، لأن أوضاعي المالية لم تكن تسمح لي بأكثر من «رسوم المأذون»، وأقدمت على عقد القران لأنني لطعت بنت الناس سنتين منذ أن فاتحتها في الزواج، وخشيت ان يغير أهلها رأيهم إذا ظلت ملطوعة فترة أطول، وخاصة أنهم كانوا يعرفون أنني من أرباب السوابق وخريج سجون في عهد نميري، ومن الوارد أن أصبح معتقلا سياسيا مرة أخرى في تلك الأيام المضطربة.
وكانت مدن العاصمة السودانية الثلاث تخضع لحظر التجوال بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكومة نميري في الثاني من يوليو من عام ١٩٧٦، والتي نقلت إذاعة بي بي سي وقائعها وردود أفعال الحكومة الفظة للغاية عليها، فكان قطع العلاقات الدبلوماسية والجوية، وتم عقد القران في تلك الظروف، وأقمنا حفلا بسيطا دعونا فيه الأقارب من الدرجة الأولى في بيت أهل العروس، وانفضّ السامر في نحو الحادية عشرة ليلا، وطارت سكرة الفرح بعقد القران، وجاءت فكرة كيفية الزوغان من دوريات الجيش التي تطوف الشوارع لاعتقال كل من يتجول بعد السابعة مساء، وتخيل منظر عريس آخر أناقة وشياكة وكرافتة حرير يسير وأقاربه في مجموعات في حواري مظلمة، ويمدون أعناقهم عند كل منعطف للتأكد من خلو الشارع من العساكر.. طبعا ركوب سيارات في مثل تلك الظروف يعدّ حماقة كبرى، لأن السيارات تسير بالضرورة في الشوارع الرئيسية حيث الدوريات العسكرية المكثفة، والتي لم يكن في مقدورها الطواف في المدينة حارة، حارة، بيت، بيت، زنقة، زنقة.. المهم كنا نسير ونتلفت كاللصوص طلبا للسلامة من الاعتقال، وعلى بعد نحو مائة متر من بيتنا كان علينا ان نعبر أكبر وأطول شارع في الخرطوم بحري، وما ان توسطنا الشارع حتى تناهت إلى مسامعنا صيحات: انت هناك.. ثابت.. فثبتنا شكليا بينما كنا نرتجف من الداخل، وكان معي ثلاثة شبان من أقاربي ونحو سبع نساء من قريباتي وأخواتي.. وسألونا لماذا لم نلتزم بحظر التجوال، فقلت لهم بكل أدب إننا قادمون من حفل عقد قراني، وأن بيتنا «أهه هناك»، ويبدو ان شكلي كعريس كان مقنعا لأن ضابط الدورية قال لي «مبروك»، وسمح لنا بالمرور والعبور.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]
إذن لولا نميري لظلت ” أم الجعافر ” تنتظر طويلا …ولربما أخذت المسكينة مقلبا …فمن يدري ربما اصطادتك إحدي هؤلاء الإنجليزيات ووقعت في حبائلها ،وعليه لو كنت مكان ” أم الجعافر” سأظل أحفل واحتفل بنميري ما دمت حية اعترافا بفضله وعرفانا له بالجميل .
إيه رأيك يا سودانية في حلقة اليوم ؟ فالأحداث أخذت مسارا مشوقا