حوارات ولقاءات

الأمين دفع الله: الزول لمّن يقول ليك أنا من (الهلالية) ما تسألو عن قبيلتو

[JUSTIFY]هو طبعاً معروف للناس، ولا يحتاج إلى إضاءة، بقدر ما يحتاج إلى معرفة عميقة بمغاليق شخصيّته؛ بسيط جداً، مبتسم على الدوام، وفيه طلاقة وحب للعمل. تقرأ في ملامح وجهه الحواشي والمتون، وتاريخا حافلا بالابتلاءات. تتشابك في عينيه خيوط محنّة الإسلاميين ومحنهم. استدار بحكم الزمن رجلاً لا يأبه لكلّ ما يقال. ذو نزعة صوفيّة برزت فيه منذ الصغر، بحكم المحيط والخلوة. البروفيسور الأمين دفع الله، ابن (الهلالية) بالميلاد، ورفيق اللوح والشرافة، هو من جيل (حنتوب)؛ الجيل الذي استأثر بكل بكل شيء ردحاً من الزمن، ولا ضير أن يتنقّل في المواقع بخفّة ورشاقة كالفراشات تماماً. رحّب بنا بحفاوة، وصبّ لنا القهوة، وقال كلاماً ليس كلّه للنشر. جلسنا جواره على مكتب فخيم، انتهى فيه بُعيْد تجربة حافلة في ديوان الحكم الاتّحادي. يشغل الآن منصب رئيس مجلس أساتذة جامعة الخرطوم، وعضو المكتب القيادي للحزب الحاكم، بخلاف كونه منظّرا وطبّاخا سياسيا. درس البيطرة في ذات الجامعة (أم نخيل)، وحضر الدكتوراه في (دبلن) منتصف الثمانينيات. سافر إلى السعودية ليجني ثمار علمه. اشتهر بحكم ولاية القضارف إبّان المفاصلة؛ كانت القضارف حاضرة، والجزيرة، والبحر والدواية، وما يمور داخل ردهات المؤتمر الوطني هذه الأيام، بما فيه ذهاب الأربعة الكبار، والصعود المذهل لآخرين. حاولنا استنطاقه بصراحة. كان يتحصّن بالإجابات المغلفة والرماديّة أحياناً تجنّباً للحرج، فهو من نوعية الرجال الذين يفضلون الاحتفاظ بمساحة محدودة للاعتراف. قال إنّه استقبل (أغداً ألقاك) بفرح كبير، وقال إنّه ليس سعيداً بالتعريب، ورفض الأسئلة بخصوص حرق منزله؛ محتسباً الأمر. استمات في الدفاع عن المؤتمر الوطني، وبدا حزيناً على حال مشروع الجزيرة، ثمّ سعيداً بأشياء أخرى، نقلّبها في هذا الدردشة؛ ما بين العام والخاص.
* لنفتتح هذا الحوار بالهلالية أظنها بداية جيدة؟
– طبعاً، طبعاً.
* ماذا تبقى في الذاكرة من تلك الأيام؟
– أنت رجّعتني لفترة طويلة.. أنا كلّ ما أمشي الهلاليّة بتذكّر فترة الطفولة والشيطنة، الهلاليّة ما زالت تحتفظ بدفء وحميميّة.
* معقول ما أصابتها لعنة المدن العريقة؟
– هي مدينة بملامح قرية، والناس أهل لبعض، ونسيج متّحد، رغم أنّهم قبائل مختلفة.
* ولذلك لن أسأل عن قبيلتك..
– الزول لمّن يقول ليك أنا من الهلاليّة، ما تسألو عن قبيلته ولا جنسه.
* كيف تخلّقت شخصيّة الأمين دفع الله على ضوء المعالم البارزة؟
– أول حاجة الخلوة.. والدي، رحمه الله، من عمري أربع سنوات كان حريصاً على وجودي في الخلوة.. قرأت فيها حتّى (قد سمع)، وهي البداية التي أعانتني في الدراسة والتديّن الشخصي.
* طالما أنّنا هبطنا بالمركب، لابد أن ندلف إلى خلوة الشيخ ود المرين؟
– يا سلام.. الهلاليّة فيها عدد من الشيوخ، وهي بلد تصوّف وخلاوى؛ الطيب أبو صباح، ودفع الله ود مقبل، جدّ العركيين، الذي قُبر في الهلالية.
* الشيخ الطيّب ود المرين سيد الاسم مؤكّد تعرفه معرفة شخصية؟
– أنا تتلمذت عليه، وكان صديقا شخصيا، وهو أوّل من علّمني حرفاً؛ كان يمسك بأصبعي ويعلّمني الحروف في الواطة: “ألف، باء، تاء، ثاء”.
* حدّثنا عنه قليلاً؟
– هو بصراحة شخصيّة فريدة، ورجل كريم. كان عنده عشرين مشروع، وبيزرع بنفسه، وبسهل للناس العمرة والزواج.
* هل كان عنده كرامات؟
– كرامات دي نتركها لله، ولكنه رجل خير، وفي حلقات الذكر كان بيجذب الناس، وبيقعوا في الواطة لمن يمرّ بيهم، وهو أصلاً ما بيقول “عملت وسوّيت”، بيسأل الله ليك فقط.
* أكيد نزلت البحر؟
– البحر دا حكاية تانية، فالهلاليّة بلد زراعي، ونحن أولاد مزارعين وشيوخ وبنعرف الميجر، وشاعرنا الهادي آدم كفاني الوصف في قصيدته الشهيرة (قريتي).
* بالمناسبة عندما غنّت أم كلثوم (أغداً ألقاك) لأوّل مرّة كيف استقبلتها الهلاليّة؟
– كانت لحظات مدهشة، ولا تنسى.
* كيف استمعت لها أنت؛ كإسلامي ومثقّف؟
– كانت تربطني علاقة بالأستاذ الهادي آدم، رحمه الله، لأنّنا أهل وجيران، يفصل بيننا شارع فقط، أنا كنت قريبا جداً من الهادي آدم وأشعاره ودواوينه، ومراحل اختيار هذه القصيدة كنّا شهوداً عليها، لحظة بلحظة.
* ارسم لنا بورتريه للهادي؟
– كان صديقي وأستاذي، وقد درّسنا اللغة العربيّة في حنتوب، وكان باعه طويلا في الأدب، ولمّن تدخل حصّته تتمنّى أن لا تنتهي الحصّة، واختيار أم كلثوم لهذه الأغنية هو شرف لينا نحن أولاد الهلاليّة وشرف لكل السودان.
* صف لنا المشهد في ذلك الوقت وصوت (الستّ) يتصاعد من وراء البحر: “غداً تأتلق الجنة أنهاراً وظلا”؟
– كان مشهداً مهيباً، وأتذكّر أنّ الكثير من الناس تعرّفوا على صوت أم كلثوم من خلال هذه الأغنية، وأدمنوها في ما بعد؛ أيّ رادي في الهلاليّة كان مفتوحا بأعلى صوت لـ(أم كلثوم)، والستّ أجادت فيها، بالمقارنة مع الأغاني الأخرى.
* من الذي زاملك في حنتوب من المشاهير؟
– لو قرأت كتاب أستاذنا الطيب علي (حنتوب الجميلة) فيه صورة وافية، أنا دفعة (68).
* بعد الترابي والنميري ونقد؟
– بعدهم بكثير، لكنّنا وجدنا أثرهم وذكراهم؛ خلف الله الرشيد، نقد، النميري.. دا جيل الخمسينيات، ونحن آخر دفعة درست باللغة الإنجليزية، لكن نحن كان معنا الدكتور حسن مكّي، وقرشي محمّد علي.
* ثمّة زعم بأنّ جيل حنتوب هو الذي حكم السودان ولا يزال؟
– الكلام دا صحيح.. طبعاً نميري وحسن الترابي ونقد وكلّ المجموعة السياسيّة، بجانب القضاة، وأساتذة الجامعات، والمهندسين الأوائل، والأطباء.. ديل أولاد حنتوب وخورطقّت.
* دي ممكن تكون هيمنة أم جدارة واستحقاق؟
– أبناء حنتوب تلقوا تعليما نوعيّاً، وحنتوب مدرسة مميّزة، بجانب خورطقّت ووادي سيدنا، الإنجليز قصدوا أن تكون تلك مدارس نموذجيّة، ولذلك أبعدوها، وكانوا بيختاروا ليها النوابغ، على مستوى السودان، وهي مدرسة بلغت شهرة عالميّة.
* بصراحة يا بروف؛ من الذي أوحى لك بدراسة البيطرة؟
– شوف أنا دخلت جامعة الخرطوم علوم، وبعد السنة الأولى بيوزّعوا الناس على حسب نتائجهم، وبعد أن يكتبوا رغباتهم، أنا كانت رغبتي الأولى طب بشري، والثانية بيطرة، فأخدوني بالتسلسل حسب التفوّق في المواد العلميّة.
* لماذا الطبّ البيطري؟
– حقيقة الدراسة ما كانت معروفة في منطقتنا، كان من الهلاليّة ياسين صدّيق مجذوب، سافر خارج السودان، وحقّق نجاحاً وصيتا كبيرا فحبّب لنا دراسة البيطرة، بجانب ذلك فقد سرت المهنة في دمي وحبّبها لنا الأساتذة الإنجليز، وهي مفيدة، والذي يستطيع أن يتعامل مع الحيوان، يستطيع أن يتعامل مع الإنسان بسهولة.
* حسناً.. أنتم يا بروف جيل محظوظ؛ درستم على نفقة الدولة، وتقلّدتم أعظم المناصب، وبعد أن توطّد الأمر لكم ذبحتم التعليم؟
– هي دي طبيعة الحياة؛ فكلّما كان العدد قليلاً، بيُحظى بخدمات كبيرة وجيدة، وكلّ ما ازداد العدد، وتوسّع الناس في التعليم، فقدوا الامتيازات الأولى، وهي سلاحٌ ذو حدّين؛ إذا أردت أن تتوسّع في التعليم لا بدّ أن تضحّي، لكن الطلبة الآن تميّزوا بإتقان التكنولوجيا، وهي ميزة كبيرة، وتوسّعت مداركهم.
* ولكن التعريب كان جريمة بحق الوطن؟
– التعريب حقيقة هو مطلوب، ولكن في المواد العلميّة أثّر سلباً -أنا بقول الكلام دا بوضوح شديد- والآن اللغة الإنجليزية انهارت. نحن الآن طلابنا أصبحوا يدرسون اللغة الصينيّة، لأنّنا انفتحنا على الصين، والتركيّة عشان انفتحنا على تركيا.
* السؤال التقليدي؛ متى تجنّدت للحركة الإسلاميّة؟
– أنا تجنّدت منذ الثانوي، والبيئة كان عندها أثر كبير، بجانب أن جو حنتوب كان فيهو استقطاب شديد.
* على يدّ من؟
– أذكر أخانا محمد الحسن التكينة هو من الناس السعوا لتجنيدي، ومعاهو أخونا أبو الحسن، من صراصر.. كانوا بيضربوا لينا القدوة الحسنة، وما كان عندنا طريقة ندخل غير الحركة الإسلاميّة.
* انقلاب الإنقاذ وما تلاه؛ أين كنت في ذلك الوقت؟
– كنت موجوداً داخل السودان.
* هل شاركت في الانقلاب؟
– لم أشارك بصورة مباشرة، ولكن جيلنا هو الذي عمل لكي تأتي الإنقاذ، وسعى لها، وعمل فيها، ويدافع عن الإنقاذ، وكانت أشواقنا أن نرى الإسلام يحكم.
* وهل حكم؟
– طبعاً طبعاً.
* كنتم على صلة بعلي عثمان أم الترابي في ذلك الوقت؟
– ديل مشايخنا؛ الترابي كان شيخنا، نشتاق لسماعه وبيلهمنا. علي عثمان كان نجمنا في الجامعات لأنّنا عاصرناه، واتحاد علي عثمان نحن كنا طلبة، وساندناه رغم المضايقة من النميري.
* علي عثمان طوال عمره ما كان يحب أن يكون هو الرجل الأوّل.. هل تتّفق معي؟
– علي عثمان أصلاً هو قائد، ولديه قدرات مهولة، لكن بطبيعته رجل هادئ، ويعمل في صمت، وسعى وظلّ يقود العمل الفكري، الأدوار كانت موزّعة.
* مافي مجموعة عارضت الانقلاب في ذلك الوقت من الداخل؟
– المجموعة التي قامت بهذا العمل لم أكن واحداً منها.
* يعني كان عندك موقف من الانقلاب؟
– لا لا.. أنا أقصد أنّ الحكاية كانت تدور في حلقة ضيّقة جداً.. لم نكن فيها، وما كنا عارفين ما يجري.
* هل كنت تعلم أن البشير هو قائد ثورة الإنقاذ؟
– أبداً أبداً.
* متى التقيت به؟
– أوّل مرة أقابله كان أخونا المرحوم عطا المنان صالح، وهو زوج شقيقة البشير، عامل كرامة للبشير، بعد عودته من ميوم، وعزمنا للكرامة، لكن البشير كان زول عادي، وما في ما يدلّ على أنّه قائد العمليّة.
* متى كان ذلك؟
– في نهاية الثمانينيات، منها وقامت الثورة.
* بالمناسبة هي ثورة أم انقلاب؟
– ثورة.
* العشريّة الأولى صاحبها جدل كبير.. كان يشرف عليها الترابي أليس كذلك؟
– نحن ناس تربّينا على الولاء، ممكن الآن لمن يقدّم شخصا في الأمر بنعمل برأي الأمير في الجماعة.
* يعني بصمنجية؟
– أبداً ما بنبصم على كل شيء، لكن في الاتفاق العام شيخ حسن هو الأمير؛ بناخد برأيه من خلال حلقات الشورى.
* جرت مياه كثيرة تحت الجسر؟
– الذي تمّ أنّه كانت هناك الأمانة العامة، وعلى رأسها شيخ حسن، المسؤول عن العمل التنظيمي والسياسي، وكان هناك الرئيس، الذي جاء أيضا بتفويض من الإسلاميين لكي يقود، ونحن أمّنا عليه.
* من الذي كان يحكم في ذلك الوقت؟
– البشير هو الرئيس، وشيخ حسن هو الأمين العام، والسياسات كلّها كانت تتمّ في إطار الحزب بمشاركة البشير. في ذلك الوقت؛ الأمين العام -بنص النظام الأساسي للحزب- هو الشخصيّة الأولى، رئيس يرأس، هذا في الحزب، وذاك في الدولة.
* ومن هنا بدأ الصراع؟
– عندما حدثت المفاصلة انقسم الناس وكانت هناك ظروف وملابسات كبيرة.
* وأجواء الاستقطاب؟
– هي دي طبعاً من أسوأ المراحل التي مرّت على المؤتمر الوطني. في الوقت داك أنا كنت في القضارف، وحصل استقطاب، وعداء شديد، ما كان الناس بيتمنّوه.
* هل خيّروكم بأن تبقوا في مواقعكم مقابل الانحياز للقصر؟ أم تذهبوا بذهابكم؟
– نذهب إلى أين؟
* أقصد كيف تم التعامل معكم كولاة؟
– تم تنويرنا بما يجري طبعاً لأنّنا ولاة، وأقول ليك حاجة؟ أنا شاركت في لجنة رأب الصدع.
* أظنّك كنت والياً للقضارف؟
– كان ذلك قبل ذهابي للقضارف.. شاركت في اللجنة برئاسة الأخ عبد الرحيم علي، الذي استعان بي، وكان معانا أخونا جلال المراد، وإسماعيل حسن حسين، مدير جامعة الجزيرة.
* حدثنا عن تلك الواقعة؟
– حقيقة كلّفنا بخمس ولايات للقيام برأب الصدع، عشان الأمر ما يتنزّل، ويحدث انشقاق في الولايات؛ (الجزيرة، القضارف، سنار، كسلا، النيل الأبيض)، وسعينا في الأمر.
* من الذي أعاق عمل لجنة رأب الصدع؟
– هي مش إعاقة.. اللجنة عملت على أن ترضي الناس وتجمعهم حتى يصلوا لاتفاق.. الناس فشلوا في رأب الصدع وكدا، وبالتالي؛ حصل انشقاق، وهو أمر لم يكن محزناً.
* في كلام يتردّد على أنّ المفاصلة مجرد تمثيليّة؟
– أبداً، أبداً.. طبعاً دا كلام اتقال في الوقت داك، لكن بمرور الزمن اتّضح جليّاً أنّ المفاصلة ما كانت تمثيليّة.
* ماذا كانت؟
– كانت مفاصلة، وبمرور الزمن وضح أنّها أزمة. لو كانت تمثيل، أكيد ما بتصاحبه تلك المرارات، والتمثيل عنده مرحلة معيّنة وبينتهي، والناس بترجع.
* في أقل عبارات؛ ممكن تلخّص لينا المفاصلة؟
– ما جرى بين الإسلاميين فتنة كبرى، تضرّر منها السودان، وتضرّرت منها الحركة الإسلاميّة، وتضرّر منها المؤتمر الوطني

حوار – عزمي عبد الرازق: صحيفة اليوم التالي [/JUSTIFY]

‫2 تعليقات

  1. [SIZE=5]ليس هناك ما يقال ….تعطلت لغة الكلام

    فقط نردد : ضيعوك …. ودروك ….أنت ما بتعرف صليحك من عدوك[/SIZE]