منوعات

قصة قصيرة .. كمال وخولة

[JUSTIFY]ذات يوم قبلَ مغيب الشمس تسللت إلى مقبرة الفجيرة وعندما دخلتها قرأت الفاتحة ترحماً على مَنْ يقيمون فيها ثم بدأت أمشي ببطٍ شديدٍ أتقدم مرة وأتراجع أخرى ـ عندما يعترض طريقي قبر ـ كحال من يخشى أن يطأ لقماً موقوتاً.. لم لا؟.. فأنا أمشي بين القبور حيث يتوجب عليَّ أخذ الحيطة والحذر كي لا تطأها قدماي فأقع في المحظور، قلت لنفسي لماذا لا نخطط ممرات آمنة بين القبور لفائدة الأحياء؟!

أحياناً كنت أقف وأنظر في شواهد القبور بحثاً عن قبرين متجاورين وحين شاهدتهما اتجهت إليهما مسرعاً وجلست بينهما فكان على يميني قبر أخي وصديقي «كمال محمد أحمد» وعلى يساري قبر زوجته «خولة».

مرت فترة عصيبة قبل أن أتمكن من تهدئة لواعج نفسي، وكفكفت أحزاني ثم أخرجت من جيبي مصحفاً صغير الحجم وبعد تلاوة «سورة يس» والدعاء لهما في خاتمتها سألت نفسي ماذا أقول لمن يحول بيني وبينهما برزخ؟. لم يكن عندي صبر على الانتظار بينما أنا هنا جالس حيث تخوم الشوق والأحزان.. كان لا بد من أن أبدأ كعهدي دائماً حين التقي مع «كمال» وهو الأخ والصديق.. حقيقة ومجازًا.. التفت إليه وهو في القبر وقلت: بالطبع ليس لديك الآن ما يشغلك عني لكي أستأذنك بالحديث.

ها أنا ذا أجلس إلى جوارك لأفعل ما يفرحك من اجترار لتلك الأيام الجميلة عندما كنا نخرج من مدرسة النهود الثانوية مسرعين ظهر كل يوم ثلاثاء إلى مكتب البريد بحثاً عن رسالة مهمة تأتي من «خولة» بنت خالك، التي ترقد إلى جوارك الآن، دعني أذكرك أنك كنت تستعجل ساعي البريد عندما يتأخر عن تسليمك خطابها أو يتأخر عن الفرز أو ينشغل بشيء آخر غير الرسائل، فتدخل إليه أنت من غير استئذان لتتولى بنفسك عملية الفرز لا تقل أن هدفك كان هو البحث عما يخصك من الرسائل فقط لأنك حين تجدها تنقض عليها كالذئب مع فريسته. هل تريد مني أن أشرح لك كم استفدنا من فحوى رسائل خولة تلك في حياتنا إلى يومنا هذا؟ لا أقول لك والسبب بسيط، أنت تعرفه أكثر مني، لكن من المؤكد ستبقى صدقة جارية إلى يوم يبعثون.

أخي وصديقي كمال محمد أحمد أعلم دون غيري بأنك كنت طالباً تتمتع بشخصية متميزة وحجزت لنفسك مقعدًا متقدماً.. ومن أجل ذلك وطنت نفسك على أن تعيش حياة مشحونة بالطموح والصدق في التعامل بل كنت ودودًا جدًا مع الجميع، ولم أدخر في ذاكرتي موقفاً انفعالياً لك عدا مع مادة الرياضيات دعني أسألك، هل مازلت غير مقتنع بأن ضرب العدد في الصفر يساوي صفرًا؟

كانت طموحاتك الشخصية الإعلامية بالنسبة لنا ضرباً من الخيال، لكن دعني أعترف لك أن تلك القناعات تغيرت رأساً على عقب مع تلك اللحظة التي وقفت فيها على خشبة المسرح في اليوم الذي زار فيه الرئيس جعفر النميري مدرستنا وألقيت تلك القصيدة العصماء بلغة واضحة الحروف وبصوت مسموع اهتزت له قلوب الحاضرين ومعهم الرئيس النميري نفسه، الذي صفق لك ومال إلى عمر الحاج موسى الذي كان جالساً إلى جواره وهمس إليه بكلام كان من نتائجه أن استدعاك عمر لدى نزولك من المنصة ليمنحك شيئاً، خطر لنا أنها مكرمة مالية، لذا خططنا لخطفها منك وتوزيعها علينا كعهدنا دائماً مع بعضنا البعض لكن ما عرفناه بعد ذلك هي قصاصة ورقة تحمل توجيهاً لمدير الإذاعة وقتذاك محمد خوجلي صالحين لتوظيفك مذيعاً.. أظنك تتذكر جيدًا عندما جلست أمام الميكرفون وقلت لأول مرة «هنا أم درمان» لقد سمعها أهل السودان جميعاً، وكان بالنسبة لهم مولد مذيع جديد، آنذاك أدركت أنك تجلس في المكان الصاح، ولم يمر وقتاً طويلاً حتى تفجرت مواهبك الإعلامية بصورة مذهلة وكأنما مهنة الإعلام منذورة لك ومفصلة على مقاسك أنت فقط، وشكل وجودك هناك في الإذاعة عاملاً محفزًا لي أنا شخصياً لأبدأ خطواتي معك في العمل الإعلامي، وأدين لك أنك كنت وفياً معي وأخذت بيدي حتى أكون معك في الإمارات.

بالطبع لم تنسَ تلك المكالمة التي جرت بيننا وغيرت مجرى حياتك المهنية، وكانت سبباً في إبعادك عن ميكرفون الإذاعة وتنقلك إلى الصحافة الرياضية، وأنا أتذكرها كلما عيل صبري على فراقكما لماذا لا نتذكرها
قلت لك: يا كمال نريد صحفياً رياضياً وأرى أن خيراً من يشغلها هو أنت ما رأيك؟.

بعد أن ضحكت باستغراب جاء ردك، كيف أعمل في التحرير الرياضي وأنا أصلاً لم ألمس كرة بيدي في حياتي ناهيك عن ركلها بقدمي. قلت لك: ومن قال إن المطلوب منك دخول الملعب كلاعب في المباراة، كل ما هو مطلوب منك هو تغطية الحدث الرياضي كناقد، وفي قناعتي أنك تمتلك ذكاءً يمكن بقليل من المساعدة القيام بالمهمة خير قيام.

ردك
ـ كأنك تطلب مني عبور البحر بينما أنا لا أعرف السباحة.
قلت لك بإصرار: توكل على الله وسوف أكون معك حتى أثناء وجودك في الملاعب.

بالتأكيد كان المعسكر المغلق الذي أقمناه في مكتب البيان وشرحت لك فيه على الورق أشياء رياضية كثيرة، وما ينبغي عمله عند التغطية وأعترف لك أن الخوف انتابني من فشل التجربة فعلاً عندما فاجأتني ونحن في طريقنا إلى الملعب بسؤالك أين يقف الحكم في المعلب؟.

لكن قيامك بالمهمة في دورة الخليج التي استضافتها الدوحة عزز الاعتقاد بأنني كنت محقاً في نقلك من الإذاعة إلى الصحافة الرياضية وقد اعترفت لي بذلك في العمود الذي نشرته في «البيان» كعهدك دائماً كلمة حق تقولها في تجرد لمن يستحق.. لكن المثير هنا أيضاً هو أنك صنعت من زوجتك خولة صحفية رياضية أليس كذلك؟ وكم كانت هي امرأة بمواصفات نادرة عندما تحملت تلك المسؤولية وقامت بها خير قيام رغم مشغولياتها الأسرية سنين عددا.

ها أنذا جئت إلى الفاجعة التي هزتني هزًا يوم اتصلت بي لتبلغني بوفاة «خولة» ما لم تعلمه هو أن بعض من يعرفوننا جيدًا كانوا يخشون عليك مني لذلك حاولوا اقناعي بالجلوس في صيوان العزاء بعيدًا عنك بل أصروا ألا أراك ودار بيني وبينهم حوارًا وسط الأحزان أقوله لك الآن وهو

ــ من فضلك كمال الآن في حالة نفسية سيئة ومن المؤكد أنه سيزداد سوءًا حين يراك أمامه.
ــ ولكن أنا اسوأ منه حالاً فماذا تريدون مني؟
ــ نريد منك أن تجلس في هذا الركن ولا تراه أبدًا
ــ أنتم تطلبون مني المستحيل فلقائي مواساة لي.

كم كانوا هم محقون فعلاً بعد ما حدث عندما شاهدوني وأنا متجه إليك لن أقول لك ماذا حدث، والسبب هو أنني وأنت لم نكن نعرف ماذا حدث بالضبط، لكن صدقني منذ ذلك اليوم أدركت يقيناً أنك لن تتأخر كثيرًا في اللحاق بها عاجلاً وليس آجلاً، كيف لا وأنت فقدت امرأة كان الناس يقولون أينما رأيت كمال تجد خولة لكن ما يخفف لواعج الحزن في نفسي هو أنكما ترقدان متجاورين بينما أنا الآن أحاول حارس المقبرة ليتركني بعض الوقت، لكن لأنه لا تزال في نفسي بقايا دموع، لكنه يرفض بحجة الظلام والآن أمد يدي إليه ليساعدني على النهوض.

صحيفة الإنتباهة
سليمان الماحي
ع.ش[/JUSTIFY]

‫3 تعليقات