رأي ومقالات

حسن محمود قُرنَي : الخرطوم عروسة النيلين

الخرطوم عروسة النيلين، ودرّة الشرق، وموطن الفيتوري، ورمز الطرب، والصوت الطروب الوردي، وصقر الجديان والتبلدي والصمغ العربي، وحضارة المروى وزينة الدارفور، موئل العلماء ومجالس الأدباء والمسارح الحالمة على ضفاف النيل المبهر بهديره الرائع وتعرجاته وأشجاره الباسقات. تتربع الخرطوم بمساحة تقدر 22.732 كلم مربع، وأسّست عام 1691م تقريبا، وأصبحت عاصمة السودان عام 1830م.

اختلف الناس في أصل اسمها ما بين من يدّعي أن الاسم مستمد من شكل الأرض والبقعة التي تقع الخرطومُ فوقها والتي تشبه خرطوم الفيل، وما بين من ذهب إلى أن أصلها جاء من شجرة البرقم التي كانت تزرع في المدينة وبكثرة في الحقبة القديمة.

التفاصيل الدقيقة للمدينة تصنع الفارق، فالخريف تعذبك الخرطوم بجمالها ونسماتها الفوّاحة في هدأت السحر، وتسهرك بوقع الحفلات وليالى السمر في وسط الحدائق المنتشرة في كل الأحياء، وتبهرك بأجوائها السريالية التي تشبه حدائق البابليين وبلاط كيلوباترا، ولا يخلو عنها مسحة حزن غامضة وتصاعد الأنين في عز الظلام وبعد منتصف الليل؛ لأن للغربة أحكامها وللمنفي تأثيرته!.

في الخرطوم تحيطك الفخامة في الليالي الأنيقات، وتلفحك الشمس في النهار وتخجلك الكرم في كل حين، وتغتالك الحاتمية في الأزقات والطرق وتأسرك البسمة على وجوه السمراء الراضية رغم صعوبة الحياة وتقلب السنين، وتختطفك الغربة ويتحرش بك المنفي ويدغدغ مشاعرك الجياشة؛ فتناجي الدجى وتخاطب الأطياف، ويسترجع المرء زرائب الذكريات وترانيم الحب الملئية بعبق الماضي والمفعمة بأصالة الحاضر.

لاشيء يشبه جمالية الخرطوم وتفاصيلها الصغيرة التي تصنع الفارق والتي تضيف إلى جمالية الخرطوم نكهة خاصة وماركة مسجلة لتلك المدينة الناعسة فوق تلال العظمة وربى الشهامة، فشعبها مضياف إلى أبعد الحدود، وودود بشكل يفوق الخيال، ومتواضع يقبلك بصدر مفتوح ويدبر بدفء واضح ومحبة لا تزول، ومهوس بالكرة ويتنفس التعليم كما هو عاشق للفن والحياة، ومتيم بالسياسة وتلوناتها، ويعرف جيّدا دهاليزها ويقرأ مطباتها ومآلاتها، وهذا مما أعطى الإنسان السوداني حسا سياسيا مرهفا وعمرا افتراضيا أطول لحكومة الإنقاذ التي يرى الشعب أن الشيخوخة دبّت في أوصالها، ورغم ذلك يتغاضى عنها لعدم جاهزية البديل المناسب وضعف الأحزاب السياسية وقلة قواعده البشرية مقارنة مع الحزب الحاكم.

تشتهر المدينة بكثرة منائرها الثقافة والدينية، وكثرة المسارح ومراكز الإشعاع الديني والفكري، وبزحمتها المعرفية والصحافية وزخمها الحضاري والتاريخي، حتى أصبحت من أهم المدن التي تفتخر بها القارة السمراء، والجسر الذي فوقه تلتقي الثقافات وتتلاحم العادات وتمتزج على صهوته الأعراق والأعراف المختلفة، كما أنها تعج بمتناقضات ثقافية وأدبية ومعيشية وفكرية وحتى دينية.

وهذا ما جعل سرة المدن السودانية بهاء وجمالا، وجعل الشعر والأدب والفنون ومجالس السياسة عنوانها الأبرز، وصناعة الصحف رائجا وسوقها مربحا؛ حيث وصلت عدد الصحف التي تصدر من الخرطوم يوميا عام 2012م 59 صحيفة منها 38 صحيفة سياسية و17 اجتماعية و11رياضية حسب المجلس القومي للصحافة والمطبوعات، وأظن لو استمرت الحالة على هذه الوتيرة فلا شك- أن كل شخص في طريقه ليصدر صحيفته اليومية! ناهيك عن الأحزب السياسية والقبائل أو النوادي الرياضية.

تتميز الخرطوم بكونها منارة للدين ومركز يرسل إشعاع الدين إلى بقية القارة، وهي قبلة لطلاب العلم الذي يأتون من كل فج عميق من أدغال القارة السمراء إلى أحراش آسيا، ومن صقيع أوروبا العجوزة إلى دفء اللاتين؛ لذا الأجواء الروحانية حاضرة في كل الميادين، ولاغرو، فالشعب السوداني المتدين بطبعه والمتصوف بأصله دائما ما كان يجتهد تقوية الصلة بينه وبين الله؛ وبالتالي بات التدين السمة الرئيسة للشعب ومنائر المساجد تصدح التوحيد وتجلجل جنبات المدينة بوحدانية الله جل وعلا.

وتبث موجات من الإيمان الذي يسري في القلوب وتغلغل إلى الوجدان وتأثيراتها الكبيرة لا تخطئه العيان، وله وقع خاص في مدينة تضاهي مساجدها عدد المباني،! والمآذن تسابق أعمدة الكهرباء كثرة وشموخا، هنا فالمساجد رابضة بأرض العزة بكل شموخ وعظمة، وتتنوع المساجد بكثرة تنوع النسيج السوداني الجميل، وتعدد أعراقه وإثنياته التي تفاعلت وامتزجت وتصاهرت وأخرجت هذه النخبة، وهذا الشعب ذا الفسيفساء الجميل.

وتتغير الاتجاهات والأمزجة حسب الفكر والانتماء والحركية، فأقدم المساجد شاهد في السودان على الإرث التاريخي والحضاري للطرق الصوفية والمشائخ الذين تأثروا بسبب الاحتكاك والتدافع الثقافي الطقوس القديمة للقارة، وامتزجوا الأوراد الدينية بالفلكور الشعبي والعادات الخالدة للقبائل الأصلية، مما كوّن لوحة بديعة ومتناغمة رغم انحرافاتها عن الجادة الصحيحة عقديا في بعض المرات.

وبعض المساجد يتنعم بجناب الحركة الإسلامية الواجهة الدعوية والامتداد الطبيعي للإخوان في السودان، وحقيقة تتجلى عبقرية هذه الحركة بفكرتها وأطروحاتها الدعوية والاجتماعية والدينية ونظرتها الشاملة للأشياء ودهائها السياسي، وهذا ما جعلهم يمثلون الحلقة الأهم وهمزة الوصل بين الحركات الإسلامية المختلفة، ولا تخلو المدينة من المساجد الجميلة ذات الأناقة الواضحة والبهرجة اللافتة للتيارات السلفية بكثرة تعددها وأقسامها المختلفة، وما يميز هذه المساجد هو العقيدة الصحيحة والتوحيد الأصيل الذي لم تشبه الشوائب ولم يتأثر بالاحتكاك الطبيعي للمعتقدات الوافدة أو الناتجة من الحضارة الأصلية في المنطقة والالتزام الديني الواضح في أفراده ورواده، وتشعر نقاء القلب وصفاء السريرة وعذوبة الدين في اللحظات التي تجلس بين أيديهم وتتقرب إلى الله في مساجدهم.

ومن أهم المساجد في المدينة مجمع النور الإسلامي في الخرطوم الذي يشبه المساجد التاريخية في العواصم الإسلامية العريقة، ولا يستمد التميز في الزخم الإعلامي والعناية التي يتمتع بها المسجد فحسب، بل يستمد كونه بيتا من بيوت الله وتحفة معمارية تنمّقت يد الجمال عليه، والمسجد يربض شامخا على بعد أمتار قليلة من ضفة النيل ويقع ضاحية البحري إحدى المدن التي تتكون منها العاصمة المثلثة.

هندسة المسجد المعمارية مستوحاة من التراث الإسلامي العريق، والطراز العثماني ذي اللمسات الجمالية، وخاصة مسجد أيا صوفيا في الإسطنبول، وحقيقة مجمع النور جمع عظمة الأصالة مع جمالية الحداثة، وتشعر لحظة دخولك المسجد روحانية رهيبة وخشوع قوي، وكل شيء في المسجد له معني ومدلول!، ووضع في مكانه بأناقة منتاهية وتناسق عجيب، سواء كان الرخام المصنوع من البلاط الأحمر المزركش بصبغة ذهبية منقوشة فيها آيات من الذكر الحكيم، أوأركان المسجد وشرفاته الخارجية أو المنارات الشامخة التي تصدح عنها صوت التوحيد ليجلجل جنبات المدينة معلنا توحيد البارئ وعظمة الواحد الأحد.

ولا أنسى روعة المربعات السوداء ودقتها المتناهية، وروعة الكتابة التي تجسد فيها أسماء الله الحسنى، والمجسمات التي تدل تاريخ الإسلام وعباقرة المسلمين، ويتمتع المسجد ببنية تحتية فاخرة ومتقدمة، ومرافق حيوية وأسواق تابعة له وبنوك ومحلات تجارية مهمة تجعل بئية المسجد مباني متكاملة دينيا ودنيويا.

وليست المساجد وحدها ما تشكل معالم المدينة، فالمدينة تعجّ بمئآت المواقع التاريخية والمناطق الأثرية والمراكز البحثية والكليات التعلىمية والمعاهد الدراسية والجامعات، التي تشعرك مدى حب هذا الشعب للعلم وشغفه به، والسوداني يموت من أجل تعليم أولاده وتثقيفهم، وهذا مما جعل معدلات التعليم عالية هنا مقارنة بالدول الإفريقية في المنطقة.

الفنُّ هو الرئة التي تتنفس بها الخرطوم:

الخرطوم مدينة الشعر والمسارح الغنائية والأمسيات الثقافية وليالي الأدب والقوافي، ودور الأوبرا والسينماء والفن، وتُعدّ الخرطوم أم الفنون والقبلة الرسمية لعمالقة الفنّ والموسيقى في القارَّة السمراء والعالم العربي، ومازالت الموسيقى السودانية الشجية تتصدر موسيقى القارة، ورنَّاتها الوترية ترسل الجموع إلى الحبور، وهزات شذية وأهازيج طرية من الزمن الجميل.

ومن الطبيعي جدًّا أن تكون مدينة ولد الفنّ فيها واحتضنت أساطير الموسيقى مثل محمد وردي وسيد خليفة ومصطفي سيد أحمد، وبزغ فيها نجم عمالقة الكتابة والأدب، أمثال الطيب صالح، وعبد الله الطيب والشاعر الأديب محمد الفيتوري وإسحاق الحلنقي والشاعر الفذّ التيجاني حاج موسى وآخرين ملأوا الدنيا صدق العاطفة وجمال الكلمة ووميض الحروف وبهاء السطور والصوت الشجيّ الذي يصدح من الحناجر الذهبية، منارة للفن وللحب، وأن تتوسد الأغاني والأوتار التي تمس الأرواح، وتنام على وقع الأناشيد التي تقبل العائد بعد الغياب بشعور عميق وصفاء بديع تطبع على جبينه ابتسامة الحب والحياة، وتصحو على شذى الألحان وعبق القوافي.

جنون الساحرة المستديرة :

تعلمت أشياء كثيرة في الخرطوم، وعشت مع سكانها جنبا إلى جنب ورأسا بكتف، وسبرت غور أهلها، وبالتأكيد اختلاط الشعب السوداني ومعرفة مكنوناته النفسية وتركيبته العرقية وميله الوجداني وتأثيراته البئية والمكانية والزمانية وما يشكل رأيه العام ووطنيته الصادقة في جميع تياراته من أقصي اليمين إلى أبعد اليسار مرورا بكلّ الشرائح وألوان الطيف التي يتكون منها الشعب السوداني الجميل، وجذوة الوطنية التي لا تخبو رغم زوابع الحروب وغيوم الانفصال وشبح الحياة الصعبة هو الأهم على الإطلاق.

أدركت أن الشعب السوداني عامة وناس العاصمة على لسان أهلنا في السودان خاصة يعشق الكرة حتى النخاع ويجرى في عروقه حب الساحرة المستديرة، وقد يصلح أفراده محلّلين للكورة في الاستوديوهات العالمية، أمثال إمبراطورية الجزيرة وسوبر سبورت أو شبكة سكاي الرياضية، لما يملكون من نظرة كروية عميقة وتحليل فني عجيب وحس كروي مرهف، وتوقعات جيدة للمبارات والكرة عموما.

وهذا ما جعل الشيخ والكهل والصغير تغضبهم الكورة ويفرحهم الجلد المنفوخ! ويكون التشنّج واضحا وتنتفخ الأوداج وقد تذهب حمرة الخجل والهدوء المطبوع على الشعب السوداني في المباريات الكبيرة خاصة ديربي الغضب بين الهلال(سيد البلد أو الموج الأزرق) والمريخ (الزعيم أو الأحمر الوهاج وليس القاني!). أو لحظات الهزيمة ودقائق الإخفاق العصيبة قاريا.

ولكن يعيبهم كثرة التنظير وقلة التطبيق كجوارهم الإفريقي التائه ومحيطهم العربي الكسول، وعدم التنفيذ وتحويل النظريات الجميلة إلى تطبيق وواقع عملي معاش، والفرد السوداني يستميت في دفاع فريقه، وتدرك تغلغل الكورة في أعماقهم حين تقرأ شعار مثل نادي الهلال ـ من أكثر الفرق جمهورا وحضورا في الساحة السودانية ـ (الله، الوطن، الهلال ) ولا شيء يفصل بين الوطن وعشق الجمهور إلى ناديهم المفضل سوى الضمير ومن يقدمه في الترتيب التصاعدي أو يصل سريعا إلى تباريح الحب وباكورة العشق في عمق قلوبهم النابضة بالكورة بدل الدم .

والجمهور السوداني كرويا منقسم إلى نصفين في معظم الأحوال، سواء كانوا في المنفي أو في المدن أو الريف السوداني الأصيل، من شرب كأس الأزرق أصنافا حتى الثمالة، ومن مازال حب الأحمر نبض يردده شرايينه،! وعندما تجتاح عدوى الكرة في العاصمة القومية تدرك ما هية الكرة ومعناها الحقيقي والنّدية المطلقة بأسمى معانيها!، وعندما تتوشح نصف المدينة ردائها الفاقع ويرتدي نصف الآخر الأزرق الصافي في عرسها الكروي، فلا صوت يعلوا صوت الجمهور الهادر والشعور الملتهبة والحماسة الطاغية، وركض اللاعبين داخل المستطيل الأخضر.

ومن لم يشارك درب الأمدرماني العظيم لم يشهد متعة الكرة ووفاء الجماهير التي لا تهدأ إلا بعد انتهاء المباراة وإطلاق الحكم صافرة النهائية للمبارة، واللاعبين الذين يقدمون آخر قطرة من عرق جسمهم عشقا للشعار ووفاء للنادي وتقديرا للجمهور المبحوحة بكثرة الهتافات وألم التصفيق أكفهم، والتشجيع المتواصل في طيلة اللقاء أنهك قوتهم.

عدوى الديربي حين تجتاح المدينة تلد حماسة كروية منقطعة النظير؛ حيث الأعلام الزرقاء والحمراء ترفرف فوق المباني والأسطح، وتتدلي الشعارات فوق العمارات والمباني وتتزين السيارات ألوان الديربي، ويحول المدينة تحفة رياضية مزدانة جمال الانتماء الرياضي وروعة التشجيع المهذب والصاخب أحيانا، وكأنها مدينة الضباب وعاصمة الصقيع مهد الكرة، لا الخرطوم الرابضة على ضفاف النيل بنبل وبهاء منذ الأزل.

تمتاز مبارة القمة بين الهلال (سيد البلد أو الموج الأزرق) كما يحلوا لعشاقه وبين المريخ (الزعيم) بندّية عجيبة ووجبة كروية دسمة، ورتم عالي ومهارات عجيبة وفنون كروية بديعة، تجعل الساحرة المستديرة المتنفس الوحيد لمن أثقلت كاهله صعوبة الحياة وغلاء الأسعار وتقلب السنين، والهلال والمريخ لمن لا يعرف هما قطبا الكرة السودانية والكلاسيكو الأشهر في الشرق وشمال أفريقيا بعد الأهلي المصري والزمالك، وهما أكثر الفرق السودانية تتويجا بالبطولات المحلية والألقاب القارية بأفضلية طفيفية للهلال.

جمالية الجمهور لا تقل أهمية من طراوة المباراة ونثر السحر الكروي فوق العشب الأخضر، المدرجات لا تهدأ طوال المباراة، والزغاريد الجماعية تتشابك مع الهتافات لتكون أروع موسيقى في الكون!، والأهازيج الشعرية تمتزج مع قرع الطبول والرقصات الشعبية الإفريقية الصاخبة، فتزلزل الأستاد (الملعب) وتجعله شحنة كهربائية تثير الحماسة وتملأ الوجدان حبا أصيلا يفوق الخيال، والمدرجات لوحة فنية سريالية رسمتها ريشة فنان مبدع.

النيل درّة السودان.

للنيل حضوره في الخرطوم ورونقه الخاص في مدينة يلتقي النيلين في تربتها بعزة وشموخ وضمت الشقيقين في حضنها إلي الأبد، لم أكن أفهم كلمات الشاعر الكبير التجاني حاج موسى ومغزاه الحقيقي حينما كان يمدح بشعره الأخاذ علي جمالية النيل وروعة الخرطوم برائعته:
يا جمال النيل والخرطوم بالليل

ياراضعة من نيلين حضنوك من أزمان

يا قبلة الزائرين يادرة السودان

ضمخ شذى الياسمين والورد والريحان

عشاق سمر بالليل سحرم جمال النيل

أجمل ليالي هنا لما القمر يظهر

والونسة تبقي غنا والغنوة تتنقل

وتفوت علي أمدرمان وهناك تكون أجمل

لو بس تطول يا ليل وتزيد جمال النيل.

ولكن من يتأمل الأنوار القرمزية والضوء الماسي الأخاذ الذي ينعكسه النيل في الليل، وإنسيابه وغزله الشفيف للطبيعة ، والشجن الذي يتحرك داخل حباله الصوتية وأمواجه المتلاحقة، وهديره الوفي للتاريخ والجغرافيا والمحافظ علي سمعة النيل العطرة علي مر الأيام وتوالي الدهور، يدرك صدق كلمات الشاعر وصفاء الاحرف لحظة تدفقها عن قريحة الشاعر الكبير بأريحة ودون تكلف.

وليست إنسيابية النيل وحدها ما يدغدغ مشاعر الشعراء وضيوف النيل المزدان دوما ببهائه المعهود والمترع بعبق الماضي وأريج الحاضر وعطر المستقبل الفواح، بل لابد للمشتاق أن يتذكر المقاهي الفاخرة الناعسة علي ضفاف النيل بلونها القرمزي الآخاذ وبحلتها الأرجوانية الجميلة، التي تنسج مع خيوط الأمل ومسحة الشوق لوحة فنية رائعة تطبع الأنس علي تلافيف عقولنا، وتبث زرائب الذكريات وتترك بصمات الحب علي أركان قلوبنا، وتستفز حصان المشاعر الجامحة لترتفع معدلات البهجة وشاعرية الموقف.

يعيدني الذكريات في شاطئ النيل إلي غابر الأزمان وأيام الخوالي، عندما كنت أعيش أيام الحب وساعات العشق الطويلة وأترقب قدوم الحبيبة التي أعاني دوما تأخرها المقصود في كل موعد!، وبعد مجئيها كنت أتمتم وربما أهمس في أذنها كلمات الحب والحياة: (أنتظرتك طويلا فوق جسور الأمل…ورشفت كأس الشوق علي مهل. وأقبلت البعد علي مضض…وآثارت الوصال رغم صخب العلاقة وسواد لليل…وراقبت جسمك الطري في وسط أشباح الظلام التي تداهمني عندما أغمض عيوني بحثا عن أحلامك وهروبا من هلوسة السهر ودموع الولهان.
تطبق العتمة خيوطها علي أركان البيوت فأطالع عن كثب وميض الذكريات، ويمر أمامي طيفك الموشي بأناقة سرمدية، فتجتاحني ألم الشوق وحرقة الحب، وفي خضم معاناتي يبلغ السهاد مداه تحت قبة الليل الكئيب، ويختفي بريق الحب في هدير المعاناة، ويصبغ علي صفحته الناصعة لون المعاناة الشاحبة وهامشية دور الحب في سجل حياتنا.

وبريق حروف الحب الباهتة وذبول أغصانه وهروبه عن جنابي رغم غرسي علي ضفاف جدائل طفولتي وخلجات مشاعري في الهزيع الأول من المراهقة وسقيه من دموع المآقي يجعلني أتجافي عن الحب ولواعجه).
النيل يحدث مسارا نغميا صاخبا أوناعما متأنقا في نفوس المتدثرين بثوب الأنين والحزن والتشبيب، وله لذة جمالية خاصة تبدد رواسب الحزن والغضب والأسى، ويدخل النفوس بسرعة قياسية علي أجواء السرور والحبور، كأنه لوحة نادرة من ألواح روك هودسون الغرامية المتألقة.

وعندما تستمع طراوة نغمات العشق المتراقصة قرب غدير النيل الساحر، وعذوبة شذى الألحان في ليل نيلي مترع بأهازيج الحب والحياة ومتعة الإثارة الدرامية التي تهز ركود حياتنا وبلادة مزاجنا، في عالم باتت المنغصات أكثر من رحيق الحياة الوضاءة تنسي الماضي وأحزانه، ويحضر في وجدانك أفراح الحب وليالي الملاح التي أرشفتها الذاكرة في سحيق صندوقها الاسود.

يعيش المرأ علي ضفاف النيل وهو يزهو ويلعب، أو يستجمم تغريد الطيور علي أفنان الأشجار أوتجديف الصيادين الغائدين إلي كسب أرزاقهم أو الزوارق الصغيرة علي صفح النيل، أوالهمسات القشعريرية علي السمراوات الطوال الذين قال فيهم كريم العراقي:
ونسيت دائي ، حين جاء دوائي
من ذا يقاوم نظرةَ السمراءِ
صادتْ فؤادي والفؤاد ضعيفٌ
والآه أصل الآه، من حواءِ.

وعلي حافة الجمال وفي وسط الحبور يعذبك الصمت الإجباري للطبيعة والتأمل علي جمالية ألأصيل من بعيد، وهمس الشمس وهي مخضبة بحلتها الأرجوانية في زمن المغيب يزينها تغنج السمراوات اللواتي يجبرنك علي البوح بجملة المشاعر ونبض الحروف الملئية بتراجيديا العشق وهستيريا الحياء.
حسن محمود قُرنَي
كاتب ومدون صومالي

‫3 تعليقات

  1. ياسلام على الوصف الخيالي للعاصمة القومية لكن في بعض الناس يقولون عندما تقارب الطائرة الهبوط يقولون الخرطوم وكئابة المنظر الخرطوم عاصمة الظلام

  2. [[والله لم اكن اعلم اني اسكن في مدينه بهذا الجمال لولا وصفك يا دفعه ولم اكن اعلم ان لديك هذا الاسلوب الرائع في الكتابه والوصف ولعلم الجمهور انا ا[لاخ حسن محمود القرني صومالي الجنسيه سوداني العشق

  3. لالاياااااااااااااخ والله حرام علينا الماحاسين بالحاجه دى؟؟؟؟دى وين البلددى…