فدوى موسى

أمك أوربا

[JUSTIFY]
أمك أوربا

وقف الصغير أمام والده وهو يجمع أطراف السؤال عندما حاصرته الفضائيات بذكرى الاحتفال باليوم الوطني وعيد الاستقلال.. متسائلاً بشدة «يا أبوي الاستعمار يعني شنو؟» فتململ الوالد في سريره، ونظر نظرة سريعة تجاه المطبخ ليطمئن أن السيدة الهانم مندمجة في إعداد القراصة بالدمعة.. وينتفخ فجأة ليقول ممازحاً ولده: «يا ولدي الاستعمار دا زي عمل أمك معانا.. نشتغل الشهر كلو.. ونجي نقيف قدامها زي الأطفال نسلمها الماهية.. وبعد داك نتزرز ليها زي الشحادين، أدينا حق المواصلات.. أدينا حق المجاملات» في مقابل رده «يا أبوي لكن في الكتاب الاستعمار يعني التسلط والسيطرة الأوربية على موارد دولنا المادية والبشرية» فيلتقط الوالد العبارة سريعاً «بس ياها ذاتها أمك أوربا.. وأنا أفريقيا»، ومن ثم يصبح الولد في جلباب المحلل.. وهو ينظر في كتاب التاريخ «يعني أمي تسيطر على المصادر والموارد في البيت عشان تبرز قوتها وتعزز سيطرتها على مقدراتك يا أبوي.. وتشلك تماماً من أي أفكار للانعتاق والتحرر الوطني.. يعني أمي حضارة تفرض ثقافتها النسوانية على البيت.. وتحدد لينا نمط حياتنا باعتبارنا مواطنين بمستعمراتها التابعة»، فيجد الوالد فرصة طيبة لشحن ابنه تجاه أمه القابضة «آي يا ولدي عشان كدا داير إيدك تكون معاي عشان نقدر نتحرر من تسلطها مرة مرة.. ونحرر المستوطنة من إيدينها» لكنه اضطر للصمت عندما جاء صوتها مجلجلاً من المطبخ «يلا يا هوي غسلوا إيدينكم وأرجوني في العريشة الفطور جاهز يلا قوام».. لتفتر ابتسامة من شفتي الولد الشقي، «لكن يا أبوي المستعمر دا ما بقوم بعمل كبير بشيل مننا الخام ويجيبو مصنع.. شنو ليك؟» ليرد «يا ولد هوي ما تنغش ليهو.. الاستعمار دا يحول مصادر الشراب كلها ليهو ويسقيك بالذرة» .. «يا أبوي يعني الفطور دا من باب النز».. «لا لا دا من باب الاستلاب الثقافي عن طريق الوصول للعقل عبر محطات المعدة ومن هنا يمكن تذويب الهوية والفكر..» ليرد الولد على والده «الحكاية شنو يا جلكسة، قدر دا شايل من الجلكينة في اللباد».. يتنبه الوالد فجأة الى حالة التلفظ الغريبة التي يتحدث بها ولده.. ويسأل نفسه في همس واضح «الولد دا المستعمرو منو..؟ الكلام الغريب دا بجيبو من وين..؟ جلكسة وجلكينة..» وعندما يحضر المأكول تذهب العقول ليلتف الجميع حول «صحن الباشري الذي تتحدث فيه لغة القراصة الساخنة مخاطبة البطن التي ترتجف من البرد والخواء» ويظل الابن والأب يتبادلان النظرات ذات الدلالة.. والأم تمارس عليهم التوجيهات «أكلوا القراصة دي بتودر ليكم البردة والجوع».. رغم أن توجيهاتها تصب في مصلحتهم إلا أن ما انطبع من كلام الوالد في مخيلة الابن يجعله ينظر لأمه بشيء من الريبة.. ويسألها «يا أمي إنتي ما كان ممكن توكلينا أكلة أغلى من القراصة بالدمعة دي.. ولا خلاص الاستعمار الاقتصادي أباح ليك تعملي فينا الدايراهو».. لتنظر الأم بحدة الى ابنها وترد عليه بحزم «هوي يا الغشيم ود الغشيم أكان داير تأكل غالي حتاكل ليك وجبة واحدة في الشهر.. تراني أدبر ليكم وأولد ليكم من قريشات أبوك الشوية والحبة الكتير.. عشان نستروا ما ينكشف حالكم».. فيرتد البصر خاسئاً وهو حسير الى والده ويلتقط سؤالاً من نظرة ابنه مفاده «شنو ردك يا زووول؟» ليهز الوالد رأسه من أعلى لأسفل ثلاث مرات كأنه يقول لابنه «بعدين بفسر ليك.. هسة أسكت وأكل» ويرتفع الصوت من الخارج كأنه صوت غُزاة أو غائرين.. «السلام عليكم حُصانا جراي.. ونسيبتنا بتريدنا..» فينظر الولد لوالده ولسان حاله «أها أكان ما أوربا دي البُستر حالك منو؟»

آخر الكلام: –

تبقى أفكار الاستقلال والاستغلال دائرة في مفهوم الإنسان كبُرت أم صغُرت الدوائر التي يتحرك فيها.. ما دام هذا الإنسان في حالة امتحان لموارده ومقدراته، ويبقى مفهوم أوربا وأفريقيا الحالي واقعاً لزمن مقدر ما لم تستطع الأخيرة للحاق بالأولى.

[LEFT]مع محبتي للجميع..[/LEFT] [/JUSTIFY]

سياج – آخر لحظة
[email]fadwamusa8@hotmail.com[/email]