فعلاً السكوت من ذهب
عندما كنت مدرسا للغة الإنجليزية بالمرحلة الثانوية، في السودان، كان أحد طلابي يتمتع بمناعة وحصانة ضد تلك اللغة، وعلى مدى سنتين متتاليتين لم أسمع له حسا خلال وجودي في حجرة الدراسة فأطلقت عليه اسم ابو الهول، لأنه كان يجلس واضعا يديه على الدرج، ومحملقا في الهواء من دون أن تبدر منه أي حركة، وكلما وجهت إليه سؤالا اكتفي بهز رأسه بما معناه «حِل عني»، وعرضت عليه أكثر من مرة أن أقدم له مساعدة وخاصة كي يقوم بتطبيع العلاقات مع اللغة الإنجليزية، ولكنه كان مقتنعا بأنه غير مبرمج لنطق كلمة إنجليزية واحدة، وكلما ضغطت عليه اتهمني بالعمالة للاستعمار (لأن السودان كان مستعمرة بريطانية) وواجهني بالسؤال: هل البريطانيون والأمريكان والأستراليون يدرسون العربية في مدارسهم أو جامعاتهم؟ ثم عرفت أنه يمارس دور أبو الهول أيضا في دروس الفيزياء والكيمياء، وأن غاية الطموح عنده هي أن ينال شهادة «إكمال» المرحلة الثانوية، كي «يحِل» أبوه عنه، لأنه «لا أبوه ولا اللي خلفوا أبو أبوه» يستطيعون تسجيله في جامعة، وكان صمت أبو الهول السوداني من نحاس، لأنه لم يكسب من ورائه شيئا،.. بعكس صمت الخواجة البريطاني جيمس كران، عضو البرلمان المحافظ عن دائرة بيفرلي آند هولدرنيس، ويخيل إليّ ان الرجل من أصل عربي أو يحمل جينات عربية، وربما كان اسمه الأصلي جمعة قرعان، فمنذ أن دخل البرلمان في عام 2001، وهو يقول لنفسه في كل جلسة: لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن لم تصنه رفسك!! يعني النائب المحترم كران لم يفتح فمه بكلمة واحدة في البرلمان طوال ثلاث سنوات،.. لم يشارك في نقاش أو يطرح سؤالا، لا منطوقا ولا مكتوبا، وحتى عندما يتطلب الأمر رفع الأيدي للتصويت فإن كران وفي غالب الأحوال يضع يديه في جيبيه أو يتفادى الجلسات البرلمانية التي تتطلب التصويت، ومع هذا فقد ظل يتقاضى سنويا راتبا قدره 164 ألف استرليني، وفوقه بدلات للمكاتب والمساعدين تبلغ اكثر من 170 ألف إسترليني، ولأن دائرته تقع خارج لندن حيث مقر البرلمان فإنه يتقاضى 56 ألف استرليني نظير الإقامة في لندن خمسة ايام في الأسبوع، فضلا عن «نثريات» تبلغ 19 ألف إسترليني!! هل فهمتم لماذا أعتقد ان هذا الرجل برلماني عربي أو من أصل عربي؟.. يعني لا يحل ولا يربط ولا يهش ولا ينش، ويدخل جيبه نحو 600 ألف دولار سنويا!! وفي مجلس اللوردات البريطاني وهو أكبر تجمع للتنابلة على وجه الأرض، احتفل أحد اللوردات مؤخرا بمرور 32 سنة عليه في المجلس من دون ان يقول كلمة واحدة، رغم أنه لا يفوِّت جلسة،.. فهو حريص على حضور الجلسات وعندما يشتد النقاش يضع رأسه على كتفه الأيمن، و… خ خ خ خ خ خ، ولم تصدر شكوى من أي من أعضاء المجلس من شخيره، لأن معظمهم يعانون من ضعف السمع أو الصمم التام!! وأعود إلى جيمس كران أو جمعة قرعان فأقول ان جيناته العربية تتجلى ايضا في أنه يفعل ما يفعله البرلمانيون العرب، الذين يعرفون ان سبيلهم الوحيد للمحافظة على مقاعدهم، هو ان يكونوا ببغاوات يرددون الكلام المعلب الذي يتم توزيعه عليهم، وإذا كان الواحد منهم لا يتحلى بمواهب ببغاوية فإن المطلوب منه هو الصمت التام.. فالصمت البرلماني العربي من ذهب.. تصمت تكسب.. تتكلم «تذهب»[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]
مقال طريف وواقعي بارك الله فيك يا أباالجعافر