تحقيقات وتقارير

السودان .. الطعن في الفيل

يبدو أن الابتسامات التي يقتسمها كل من الرئيس عمر البشير والرئيس التشادي إدريس ديبي، لاتصمد كثيراً بعد انتهاء مراسم مصالحاتهما المتكررة، وإطفاء أنوار الكاميرات إيذاناً بدخول العلاقة بين بلديهما إلى نفق، كثيراً ما «يحدر» ديبي في ظلامه إلى الرئيس البشير.
وعلى خلفية تمادي ديبي في نقض العهود والمواثيق التي كثيراً ما قطعها لإصلاح العلاقات مع السودان، كانت مظان المراقبين تمضي باتجاه أن الدولتين غير جادتين في إصلاح العلاقات.
ولما كانت فرنسا هي الدولة صاحبة التأثير الكبير على تشاد ونظامها، لدرجة جعلت كل اتفاقاته السابقة مع الحكومة السودانية في طرابلس وسرت وداكار ومكة حبراً على ورق. فقد آثرت الحكومة فيما يبدو أن تعمل أخيراً بنقيض تلك المقولة الرائجة والدارجة كذلك «عينك للفيل وتطعن في ضلو».. مؤثرة التعامل مع فيل فرنسا بشكل مباشر، بعد أن أثبتت التجارب ضعف انجمينا البائن في إنفاذ شيئ مما توقع عليه مع الخرطوم من غير أن تأخذ في الاعتبار صياح الديك الفرنسي.
ففي الأنباء، أن وفداً حكومياً سيتوجه إلى فرنسا الأسبوع القادم لبحث الجنائية ودارفور. وبالنظر الى الأسماء التي ستهبط على الأرجح في مطار شارل ديجول في الواحد والعشرين من الشهر الجاري.. يلاحظ أنها من الوزن السياسي والأمني والدبلوماسي الثقيل، حيث يجئ في مقدمة الوفد رفيع المستوى د. نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية والفريق أول صلاح قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني ود. مصطفى عثمان اسماعيل الى جانب مدير إدارة العلاقات الثنائية بالخارجية عبد الباسط السنوسي.
وفي المقابل، يلتقي الوفد الحكومي بمسؤولين فرنسيين رشح منهم حتى الآن برنارد كوشنير وزير الخارجية الفرنسي، وبرونو جوبير المستشار الدبلوماسي المساعد للرئيس نيكولا ساركوزي، الى جانب أمين عام قصر الأليزيه كلود غياب.
وتجئ زيارة الوفد الحكومي الى باريس في وقت بدت فيه الأمور على الحدود السودانية التشادية، وفي داخل تشاد تتجه نحو الانفجار، وظهور أعراض توتر بين البلدين يعرفها الإعلاميون جيداً من فرط تكرارها.
حيث بدأت أصوات هنا وهناك تجأر بالشكوى وتتهم الخرطوم بأن ثمة علاقة لها بما يحدث هناك في وقت تتفوق فيه الخرطوم على انجمينا بالصبر فقط وهي التي كثيراً ما لُدغت من جُحرها.
ولما جعلت هذه الإرهاصات باب التوتر موارباً، فإن محللين رأوا ضرورة أن يتم الحديث مع فرنسا «رأساً» والاستماع إليها جيداً، خاصة بعد ثبوت عدم جدوى الجلوس مع تشاد بمعزل عنها، ويتوقعون أن تطالب باريس الخرطوم بأن ترفع يدها عن دعم المعارضة التشادية.
ورغم كف الحكومة عن دعم المعارضة التشادية، إلا أن هناك ثمة هواجس ماضوية تجعل الحكومة في الخرطوم دائماً في موضع الشك بغض النظر عن الحيثيات التي تؤكد براءتها، ومرد تلك الهواجس الى أن التغيير في نظام الحكم بتشاد دائماً ما يجئ عبر بوابتها الشرقية، حيث وصل الى السلطة هناك، وبذات الطريق تمبل باي، وجوكوني عويدي، وحسين هبري، وإدريس ديبي نفسه.
ويرى أحد المختصين في العلوم السياسية، أن تأثير فرنسا في ملفي دارفور والجنائية أكبر من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جعله يصف زيارة الوفد الحكومي المرتقبة الى فرنسا بأنها خطوة صحيحة تأخرت كثيراً.
لكن الى أي مدى يمكن أن تتجاوب فرنسا مع زيارة كهذه وهي التي لم تلتزم بوعود قطعتها من قبل على لسان وزير خارجيتها برنارد كوشنير بحمل عبد الواحد محمد نور الى مفاوضات الدوحة؟
وبمحازاة الإجابة عن هذا السؤال، يرى د. عبد الرحمن أبوخريس أن توقيت الزيارة بالغ الأهمية، لأنه يجئ بعد انفتاح الإدارة الأمريكية الجديدة على المنطقة العربية والإفريقية وبالتحديد بعد زيارة المبعوث غرايشون وحديثه عن مجيئه من غير شروط مسبقة، وإيحائه بإمكانية التطبيع مع الخرطوم في أي وقت وعلى خلفية ذلك ربما حركت باريس ملف علاقاتها مع الخرطوم بشكل أكثر جدية وتوصلت الى شئ ذي قيمة مع الوفد الحكومي في إطار سباقها غيرالمعلن مع أمريكا في المنطقة.
والناظر الى مواقف فرنسا في الحقبة الماضية تجاه السودان بشئ من الحياد، يلحظ أنها اتسمت بالإعتدال، وشواهد ذلك الاعتدال ليس في تطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين فحسب، بل في مواقف كثيرة منها اعتراض فرنسا العام 3991م على وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإعادة جدولة ديون السودان، فضلاً عن مواقفها المعتدلة إزاء الاعتداء الأمريكي على مصنع الشفاء.
لكن مع بروز أزمة دارفور، أصبحت فرنسا التي حست ربما بتهديد الأزمة لمصالحها في تشاد، تلعب دوراً أكسبها غضب الخرطوم كثيراً، وذلك من جهة انحيازها المكشوف لتشاد، إن لم يكن تحريضها ضد السودان، وتصديها إلى موضوع المحكمة الجنائية الدولية.
ومن هنا ربما تأتي أهمية زيارة الوفد الحكومي بخلفياته المختلفة الى باريس المتشددة جداً في موضوع الجنائية، والموجودة على حدودنا مع تشاد في شكل قوات «يونيفور» علها تفلح في تحييد فرنسا عندما يتم عرض القضية على مجلس الأمن، في وقت لا يستبعد فيه البعض أن تكون الزيارة ذات علاقة بقضية المختطفين وطرد المنظمات من دارفور. ومهما يكن من أجندة، فيبدو أن الزيارة مهيأ لها أن تصل الى تسويات وربما صفقات يملك كل طرف من أوراق اللعبة السياسية ما يمكنه من إنجازها تحت تأثير أجواء باريس الربيعية هذه الأيام.
فتح الرحمن شبارقة :الراي العام