رأي ومقالات

محمد الخير حامد: زيدان الزقزاق .. النهج الكذوب والتمرد على أنماط السرد الروائي العربي

يقول الدكتور شكري عزيز الماضي في كتابه (أنماط الرواية العربية الجديدة) “إنه من البداهة القول ، إن الرواية الجديدة ، تعبير فني عن حدة الأزمات المصيرية التي تواجه الانسان ، تسعى لتأسيس ذائقة جديدة ،أو وعي جمالي جديد مستندة الى جماليات التفكك تماهيا مع تشظي الأبنية المجتمعية وفقدان الانسان وحدته مع ذاته”، ويشير إلى أن الرواية الجديدة لا تملك لغة واحدة ، بل نلحظ أحيانا تمردا على اللغة وتراكيبها المألوفة والشكل شيئا ينمو من خلال التجربة يخلقه كل من المؤلف والقارئ مؤكدا أنه ليس من مهمة الرواية الجديدة إثارة انفعال القارئ أو دفعه إلى توهم الحقيقة وإنما مهمتها دفعه إلى التفكير من جديد في كل ما يقرأ وإثارة الشك والتساؤلات ، أي أن الرواية الجديدة في رأيه تصدم القارئ بأسئلتها الفنية أكثر مما تجذبه وتدغدغ عواطفه.

      كذلك للكاتب الروائي السوداني أمير تاج السر رأي مشابه لهذا الرأي خاصة في ميله لنوع الروايات التي تكذب إبداعيا وتنسج الفخاخ الوهمية للقارئ ، يقول أمير: “أعتقد شخصيا، إن الرواية الحقيقية عموما، الرواية التي يمكن وصفها بالعظيمة ذات طبع متمرد ، وتأبى باستمرار أن تلتصق بالواقع المعيش ، إلا في جوانب محددة هي خاماتها الأولية التي تمنح الإيحاء فقط ،هي تبني واقعها الخاص الذي يأخذ من الواقع الصرف ، وأيضا من الخيال المتأجج في ساعات الكتابة وبالتالي تنتج الصيغة الجمالية المعرفية المطلوبة”[ii]

       ولعل فكرة الكذب الابداعي هذه ، أو البعد عن الحقيقة والواقع في مجال الرواية ظل يغري الكثير من الكتاب الآخرين ، فالكاتبة هدى الجهوري نجدها أيضا تصرح وتقول :كم أنا مدينة لكذبي الأبيض ،وللجنية الطيبة التي استيقظت في روحي ولم تطردها ، هكذا ظلت تحرض الأفكار لتنمو أعشابها في الذاكرة وعلى إمتداد الأوراق[iii].

     على نهج قريب من هذا النهج الكذوب والمتمرد على قوالب السرد والحكي المعروفة ، جاءت رواية “زيدان الزقزاق” للكاتب السوداني الشاب حسام الدين عبدالقادر صالح ، المنشورة عبر الدار العربية للعلوم ناشرون في العام 2013م.فالرواية جاءت في 176 صفحة من القطع المتوسط وفي طباعة أنيقة كما هي عادة دار النشر المعروفة ،وبنيت على هيكل من 15 فصل ، كل الفصول ذات عناوين سجعية متشابهة، وتشكل مضمون الرواية على حكاية غرائبية مثلت نوع من الفنتازيا والخيال ، فالقصة الأساسية تحكي عن زيدان الزقزاق ، بطل الرواية وهو الشخصية المحورية في الرواية” الرجل الذي يعتبر المسؤول الأول عن الحي ، كان ذات يوم مسؤولا عن اللجنة الشعبية للحي والأحياء المجاورة وغير ذلك كان موظفاً في الخدمة المدنية ومع ذلك يعتدي عليه مجهولون ويفقد بسببهم سمعه وصوته ولا تصل الى مسامع السلطات أي شكوى “[iv] ، وحي الزقزاق ، الحي المجهول الذي أصرت الصحفية قمر “التي كانت أمنيتها تحقيق سبق صحفي يزيد حياتها تلالؤاً وينهي رحلة معاناة مواطنين تجاهلتهم السلطات بما فيها السلطة الرابعة “[v]، على كشفه للناس من خلال تقصي حقائقه ونشرها عبر تحقيقاتها الصحفية المشوقة ” كيف يصدق العالم وجود حي باسم الزقزاق مع نفي الجماعة وجود حي بالأساس في طول البلاد وعرضها “[vi].

       استندت الرواية على عقد وتكثيف ،حي الزقزاق المجهول الذي تعود أصول ساكنيه الى جبال النوبة كان نفسه عقدة تحتاج للحل ، وتلك الزقزقة التي كان يتميز بها الزقازقة ويصدرونها من حلوقهم ثم اختفت ” مصيبة الزقزاق الكبرى الجديدة .. الزقزقة التي انعدمت في حلوق المواليد الجدد ، .. يصرخ المولود صرخته الأولى ، ويبكي مثلما يبكي كل طفل لكنه لا يزقزق أبدا “[vii] ،والجماعة التي تناوش زيدان الزقزاق بطل الرواية منذ بدايتها وحتى نهاية الرواية ، وفي خضم تلك الأجواء تبرز قصة الحب التي لم تكتمل بين بطل الرواية زيدان الزقزاق وقمر الصحفية النشطة ذات الأصول الشمالية التي اهتمت وحدها بقصة زيدان والحي المجهول .

       ومنذ بداية الرواية تبرز كلمة “الزقزقة ” وتبدو كمصطلح مدهش ” النشاط الحصري الذي يتميزون به عن بقية أحياء أمدرمان المجاورة ، هو نشاط إنساني لا محالة لأنه صادر من بشر من لحم ودم ،لكن لم يستطع الكثير من سكان البلد تصور أن يصدر النشاط الزقزقي من انسان ، لذلك كان الزقازقة حريصون أشد الحرص على ممارسة الزقزقة على نطاق ضيق وبين الزقازقة وحدهم ، حتى لا يتهمهم الآخرون بما ظلت تتهمهم به الجماعة “[viii]

       وفي رأينا فان الكاتب حسام الدين صالح استفاد عند اقدامه على كتابة الرواية على مهارتين اكتسبهما من تجاربه العملية ، هما :كتابته للقصص القصيرة وحسه الصحفي مع اشتغاله بعمل الصحافة ، وقد بدأ ذلك جليا في سياق الحكي وهيكل الرواية والسرد وأبطال العمل ككل ، فبطل الرواية هو في الأصل كاتب قصة ضل طريقه بسبب الظروف وقمر صحفية محترفة تبحث عن المتاعب ، وجو الرواية العام بما فيه من استقصاء وتحقيق وتحري ومطاردات أقرب لجو الصحافة ومشابه لأجواء الروايات البوليسية .

    السرد في رواية زيدان الزقزاق لم يكن معقدا بل جاء جميلا، وفي لغة ممزوجة في الغالب مابين العامي في الحوار ،والفصيح في المتن السردي والحكي ، وهذا يحسب للرواية ويقوي من صدقيتها وحيوتها ويمكن أن يساعد في انتشارها ، الا أن الإسهاب والتطويل في بعض أجزاء الرواية لم يكن له داع لأنه لم يخدم النص كثيرا ، خاصة عندما أكثر الكاتب من نماذج الرسائل القصصية التي أراد أن يوحي لنا بها بموهبة البطل وقدرته على كتابة القصة ، وإضفاء التشويق للقارئ عبر مشاعر الحب الملتهب والعواطف المتأججة بين زيدان وقمر ، إذ كان بإمكان الكاتب إقناعنا بذلك في أقل من صفحة واحدة دون هذا الكم من الصفحات التي استمرت من (110 132) في فصل شبه كامل (ما يحكيه شهريار أو ما يروى عطشاً ) ، وكما هي عادة الأعمال الإبداعية فهي لا تخلو دائما من الأخطاء الطباعية التي قد تقلل من قوة العمل الأدبية  بالرغم من جمال الطباعة والاخراج الفني إذا تعدت حدود المعقول.

    وفي عموم تقييمنا للرواية فاننا نراها قد نجحت في تحقيق أهدافها خاصة عندما ركز الكاتب على التناحر الانساني وممارسات العنف والعنصرية والقبلية ونبهت لأساليب الإقصاء المتبعة والكبت الاجتماعي وجاءت حاشدة بالكثير من الأفكار الإيجابية لأنها كانت تنشد الاندماج الاجتماعي وتدعو المجتمعات للتسامح والتصاهر عبر حس صحفي مقتدر وفنتازيا مبهرة .

 بقلم: محمد الخير حامد

E.mail:medo1199@hotmail.com

 

 

           

 كتاب العربي الجزيرة والخليج العربي نصف قرن من النهضة الثقافية مجموعة من الكتاب الجزء الثاني

[ii] أمير تاج السر – ضغط الكتابة وسكرها .. كتابات في الثقافة والحياة دار العين للنشر 2014م

[iii]  أكاذيبي هدى حمد الجهوري مقال منشورللكاتبة بكتاب العربي 95

[iv] زيدان الزقزاق الدار العربية للعلوم ناشرون 2013 ط صفحة 159

[v] المرجع السابق – ص 58

[vi]  نفس المرجع ص 21

[vii] المرجع نفسه ص42

[viii] المرجع نفسه  ص 25-26 1