بين السودان وأمريكا اللاتينية
كم واحداً منا يجرؤ على أن يقف، أو يبقى حيث هو جالساً، ويقول مثلما قال بوليفار في مسألة الانتماء التي تخصه؟، والذي أعنيه هو المواجهة خالصة الصراحة مع الذات بدون صيغ توفيقية تجميلية مغرية كالقول بأننا خليط من ثقافتين لكل منهما عمقه وجماله، ففي المقابل لكل من أي ثقافتين ضحالته ومواطن قبحه، والواقع أن الهجين البيولوجي والثقافي على السواء عرضة لأن يقبس من كل مكوِّن أجمل ما فيه بذات القدر من احتمال أن يقبس من كل مكوِّن أسوأ ما فيه، والغالب أن يكون الهجين خليطاً يحمل من صفات مكوّنــَـيه أو مكوِّناته بحسب عددها الجمالَ والقبح والرفعة والضعة بأقدار متراوحة يصعب أن تكون محصلتها النهائية إيجابية على الدوام تماماً مثلما يصعب أن تكون سلبية باستمرار، ولكن الأهم هو الالتفات إلى أن تلك المحصلة ليست صيغة ترضية يــُـلوى عنق الحقيقة من أجل أن تسرّ النتيجة في النهاية أولئك الذين تسري في عروقهم دماء متشابكة: نحن.. قوم سيمون بوليفار الذين لا يزالون إلى اليوم على القدر ذاته من الحيرة كما يبدو.. أو أيٍّ مَن كان.
من الصعب تجاوز كلمات بوليفار الدالّة تلك لرجل مثلي مولع بتقصــِّـي المنغصات العرقية والثقافية حتى إذا كان ما بيننا وبين أمريكا اللاتينية من الاختلاف العرقي والثقافي والتاريخي كبيراً بما لا يدع مجالاً رحباً للمقارنة، فبعد عمر ليس يسيراً في تعقــُّـب الأعراق المختلطة والأخرى الصافية بالمراقبة والدراسة، إضافة إلى ترصُّد الثقافات الهجينة والثانية الخالصة (مع الإقرار باستحالة الصفاء والخلاص المطلقين) من المنافذ المتاحة والتلصص عليها من المداخل غير المشروعة كما هي في العرف السائد، بعد كل ذلك لم يعد يساورني الشك في أن النموذج الأبعث على الإلهام في شأن الجدل حول الهوية (وليس الإجابة عليها) ليس من الضروري أن يكون على مقربة جغرافية أو زمانية منا، فقد يقبع ذلك النموذج المشتهى على بعد ألوف الأميال منا أو على مسافة بضعة عشرات أو مئات من السنين إلى الوراء، والأهم بالطبع أنه ليس نموذجاً واحداً بعينه.. حيثما ومتى ما كان.
الأدعى في التحوّط هذه المرة بالنظر في كلمات سيمون بوليفار عميقة الإيحاء تلك هو وجه الاختلاف الواضح بين معضلتينا في الانتماء، فالقائد البوليفي (نسبة إلى اسمه الذي اشتقت منه بوليفيا لاحقاً، وباتخاذ تلك النسبة دلالة على أمريكا الجنوبية بأسرها بشيء من التوسع باعتبار بوليفيا كانت إلى وقت قريب جداً لا تزال رمزاً عالمياً للثورة على الحضارة الغربية ممثلة في هوغو شافيز المغرم باستلهام بوليفار إلى حد الدخول إلى قبره للتواصل مع روحه كما ورد في الكتاب المشار إليه أول هذا الحديث).. القائد البوليفي كان يقف حينها أمام مائة أو مائتين سنة على أبعد تقدير من الاشتباك العرقي والثقافي، وهذا على عكس ما قد يخاله البعض أدعى إلى الحيرة منه إلى الإطمئنان، فالأخير كان أحق بأمثالنا ممن طالت خبرتهم بالأعراق والثقافات المختلطة.
ولكن هل طال بالفعل استخلاص نموذجنا في صياغة الكيان السوداني الفريد بأكثر مما ينبغي؟، الواقع أن نظرة متأنية إلى الوراء تبين أننا لا نقف حقاً سوى أمام الفترة ذاتها التي وقف إزاءها بوليفار وهو يطلق كلماته الحارّة تلك، فمفهوم السودان الحالي يعود إلى المائتي عام ذاتها إذا لم نجادل في أنه استقر في صحبة غزو محمد على للسودان في العام 1820، ومن الواجب أن يكون معلوماً أن أية ثقافة هجينة لن يكون بوسعها أن تقرّ على أي شكل “توافقي” مقبول لكيانها قبل أن يتم الانتهاء من صيغة تشكيل الدولة – التي تضم تلك الأعراق المتشاكسة هيكلاً على الأقل، ومعلوم أننا لا نزال نتجادل في هيكلية دولتنا إلى هذه اللحظة.. دع عنك مضامينها العميقة.
أخيراً، لا أرغب على هذا الصعيد في التبرّع بأية نصيحة تتجاوز أن ثمة في أمريكا اللاتينية منذ أيام سيمون بوليفار وحتى حقبة مواطنه هوغو شافيز وغيرهما من الأسماء من غير أن تكون ثورية وذائعة الصيت بالضرورة ما يصلح لأن يلهمنا للجدال في ضوئه بخصوص الهوية عوضاً عن التخبّط في البحث عن إجابة قاطعة على الجوار.. أو توهُّم أننا قد فرغنا بالفعل من الإجابة وأن كل ما يخص انتماءنا وهويتنا على ما يرام.
الكاتب : عمرو منيردهب
صحيفة السوداني