مقالات متنوعة

ابراهيم عثمان : العبودية الفكرية بين التصلب و السيولة

لا يستطيع إنسان كائناً من كان أن يتحول إلى آلة منطقية صماء معدومة العاطفة تصدر أحكامها بواسطة معادلات منطقية صارمة خالية من التحيزات ، إذ لن يترفع عن الهوى تماماً  إلا نبي معصوم  … و لذلك تظل أحكامنا دائماً معرضة للخطأ و تحتاج للمراجعة بإستمرار فهي نتاج عمليات فكرية ترسخت بحكم التعود و الكسل الفكري الذي يجعلنا لا نحب تعليق الأحكام و الإجتهاد في تحصيل  المعلومات التي  نحتاجها لإصدار الحكم . و الملاحظ غالباً هو قلة الأحكام المخففة   و سيادة الأحكام القصوى البعيدة عن الوسطية المطلوبة . و ليس معنى هذا أن كل أحكامنا يجب أن تكون ملتزمة بالوسطية مما يحيلها إلى (وسطوية) بالمعنى السلبي التحقيري الذي تواضع الناس على إلصاقه بالمفهوم الذي تدخل الواو في النسبة إليه مثل إسلاموي و علمانوي و علموي …. الخ . و هو ما يشير إلى حالة متطرفة  تؤدي إلى الإلتصاق بالمفهوم و التمسك به حتى لو كان في ذلك معاندة ظاهرة للواقع و بالتالي أدلجة المفهوم و التعبد في محرابه فبعض المواقف لا يكون التوسط فيها هو الخيار الأفضل خاصة إذا كانت القضية محل النظر قضية واضحة المعالم و ذات أهمية قصوى و تمس الثوابت . لذلك فالتوسط في الوسطية  قد يكون هو الخيار الذي يضمن أن لا تتحول الوسطية إلى  نقيضها فنتطرف في توسطنا و نضيع قضايانا بحجة الوسطية فهي في بعض المواقف تعتبر نوع من الهروب و البرود الممجوج تجاه قضايا هي بطبيعتها ساخنة و فاصلة لا تجدي فيها أنصاف المواقف التي قد يفهما البعض خطأ بأنها عين الوسطية . و نِصْفُ  الموقف في بعض القضايا ذات الطبيعة الخاصة قد يؤول في النهاية إلى موقف يميل إلى الجانب السلبي و يرسل هذه الرسالة أراد ذلك صاحب الموقف أو لم يرد. و مع ذلك تظل الوسطية هي الخيار الأفضل و يظل الإنسان الذي يراقب تحيزاته و يراجع مواقفه و يكون واعياً بالمزالق التي قد يقع فيها ، يظل هو أبعد الناس عن التطرف و أقربهم إلى الحق الذي لا يستطيع أحدنا إدعاء القبض عليه صافياً . 
هذه المقدمة تصلح في ظني للتطبيق بصورة عامة في نواحي كثيرة ،  و نحن أحوج ما نكون إليها في جدالاتنا السياسية التي نخوض فيها بعقلية متخمة بأحكام قاطعة  تتطرف في الحب و الكره بناءاً على إنطباعات سطحية سريعة و تحزبات متمكنة في النفوس تميت ملكة التفكير و تجعلنا في حالة إستعباد فكري تام يجعلنا نقيس كل الأمور بمقياس ذاتي خفيف …و بناء على توجهات القيادة التي تفكر لنا لتصبح تصريحاتها وخواطرها و تنظيراتها السهلة بمثابة عقائد صلبة لنا نتمسك بها و ندافع عنها بأكثر مما يفعل صاحبها الذي سرعان ما يغادرها إلى محطة جديدة يرى أنها أجدى و أسرع عائداً في تحقيق طموحاته . و من المستغرب أننا  نلحظ خلطة مزدوجة غريبة من تصلب فكري يتمسك صاحبه بقوة بآخر ما أنتجه السوبر عقل الذي تمتلكه القيادة  و يعده  من التابوهات الممنوع نقدها و بين سيولة فكرية تنتقل مع السوبر عقل في إنتقالاته الجذرية  في مكابرة  تنكر المعاناة و الإحساس بالتناقض و العوار البين الذي ينتج عن هذه النقلات المتضادة !!  و هذا النوع من العقليات يستحق الشفقة و هو يجهد نفسه و يقسر ملكة المنطق لديه لتشهد شهادة زور على أن ما يبدو من تناقض ما هو إلا الإنسجام في أبهى تجلياته و التناغم في أنقى صوره  فيعمد إلى شتات الأفكار و التصريحات و المواقف و يحاول هندستها ذهنياً ليكتشف سر العبقرية التي جمعت المتناقضات و جعلت منها مثالاً للحق النقي الصافي الذي لا يزيغ عنه إلا هالك مغرض ! 
كم منا يستطيعون أن يتجاوزوا حالة الغضب المشوب ب( لذة خاصة ) عندما يقع خصمهم في خطأ جسيم بما يجعله غضباً نبيلاً خالياً من الشماتة و الفرح الآثم ؟  نعلم جميعاً أن هذا قد يكون مبرراً في وجهة نظر أخرى ترى أن هذا من طبيعة البشر  لأن  الحياد الكامل مستحيل  ولأن لكل  منا موقفه الذي يقتنع به تماماً فإذا وقع الخصم في خطأ جسيم يعزز هذه القناعة فحينها تظهر خلطة ملتبسة من الغضب و الفرح  و لا ينجو من تداخلهما إلا القليلين : غضبة تتبدى في إستنكار خطأ الخصم و مهاجمته و توضيح سلبياته و حجم الضرر الناتج عنه و ربما تضخيمه و قسره ليقول عن فاعله أكثر مما قال و لذلك تكثر أحكام القيمة السلبية المضخمة و تقل  أحكام الواقع التي تدور مع الحقيقة حيث دارت و هي غير محببة  لأنها أقل عائداً و أبخس قيمةً في تحقيق المرجو المتمثل في الإدانة القصوى التي قد لا توفرها على الدوام ،  و فرحة قد يتفاوت سببها بين الشماتة في الخصم  و بين ما يقدمه هذا الخطأ من حجة إضافية تسند رأيه القديم و تشعره بالتماسك في وجه الخصوم متباهياً بقدراته الفذة في الحكم على الأشخاص و الأحداث و التنبؤ بالمسار الذي ستأخذه الأمور و لسان حاله يقول : ألم أقل لكم ؟  و عندما يحدث ما يقدم صورة جيدة عن  الخصم نجد التجاهل للحدث أو البحث الدؤوب عن الجانب السلبي منه الذي يثبت الموقف المسبق الذي تحركه دوافع مختلفة ربما يكون البحث عن الحقيقة المجردة  آخرها أو ليس من بينها … و كثير منا يعتز بأحكامه و يراها جزء منه و من كرامته و لا يتنازل عنها بسهولة مهما كانت  معيبة  ولا يُعجبه إن تهينها الأحداث و تسفهها و تقدِّم الدليل تلو الدليل على بطلانها و لا منطقيتها ، لذلك يبتكر أحدنا نظارته الخاصة عدساتها مكونة من معتقدات و مسبقات يقرأ الأحداث بواسطتها و يفسرها و يحملها ما لا تحتمل حتى يشعر بأنها لا تشكل تهديداً لقناعاته العزيزة عليه و أنها تسير كما يتمناها أن تسير رافعة لواء التأييد الدائم لقناعاته التي بناها في الماضي بتأثيرات مختلفة من أحداث و أشخاص وواقع و أماني و منطق و هوى و يظن أن الواقع الذي تم هندسته في عقله بناءاً على هذه العوامل يمتلك تأثيراً سحرياً يجعل كل الأمور الحالية و المستقبلية تسير على مقاسه و ما هي إلا مجرد تأكيدات متوالية مستمرة على صدق تصوراته .
بعض الساسة يستفزك لتلاحق تصريحاته المثيرة المنفلتة  لدرجة أنها لا تحتاج للتعليق عليها و بيان عللها و لكنها هي ذاتها علة ناطقة تتعب المدافعين الباحثين لها عن تأويل يخفف من وقعها  لدرجة أن مجرد النقل الأمين لها قد يعد عملاً عدائياً ضد قائلها !  و لأن هناك ممارسات مدانة بالبديهة من أي جهة  جاءت  حاكمةً كانت أو معارضة لذلك حديثي لم يكن دعوة لتعليق الأحكام بلا مبرر من نقص المعلومات أو ضبابية الرؤية و لا لإحسان الظن بغير مبرر فبعض الساسة لا يتركون لك مجالاً لإحسان الظن بهم . و إن حاولت أن تفعل ذلك سرعان ما يقدمون لك الدليل تلو الدليل على أنك مخطئ في حسن ظنك بهم ، و لكنها دعوة لتعليق الأحكام تجاه القضايا التي لا نمتلك معلومات كافية عنها و لإحسان الظن بمن يتركون لنا فسحة لفعل ذلك في حقهم  و ما أكثرهم . 
ليتنا نصل للدرجة التي نتمنى فيها ألا يخطئ خصمنا و ندعو له بذلك و لا نجعل من مواقفنا ضد الطرف الآخر و كراهيتنا له  هما  محور و منطلق نظرتنا لكل الأمور و لا نصدر أحكاماً مبرمة نهائية على الخصم و نظل في حالة لهاث دائم للبحث عن حيثيات و بينات تؤكد عدالة حكمنا الذي نعلم في قرارة أنفسنا أنه لا يمثل العدالة في قمة صفاءها و إنما هو مجرد رأي ترجح لدينا و لذلك نظل بإستمرار نشعر بالحاجة لتقديم مزيد من الأدلة التي تسنده و نتجاهل تلك التي تناقضه و تطعن في كرامتنا الفكرية إن جاز التعبير .. و التجريم المبالغ فيه للآخر و الذي يتجاوز واقع تجاوزاته و يختلق و يضخم يولد تجريماً مضاداً و يصعِّب من مهمة الباحثين عن الحد الأدنى من نقاط التلاقي التي يمكن تطويرها لتتسع و تعالج مآخذ كل طرف على الآخر فينتقل الجميع إلى مربع الوسطية الحميدة في نظرة كل منهم للآخر و معالجة الإختلالات التي رصدتها نظارة الطرف الآخر و التي بالتأكيد لن تكون كلها مختلقة  و التي ربما تغيب عن صاحبها إما بسبب وجوده في قلبها أو لموازنته بينها و بين إيجابيات يرى أنها تفوقها أو حتى بسبب مكابرة قد يتراجع عنها إن وجد من يقنعه بأنه فعلاً يريد له الخير و لا يتمنى له المزيد منها حتى تهلكه في لعبة إفناء متبادل لا يربح منها أي طرف .
ابراهيم عثمان