مقالات متنوعة

ابراهيم عثمان : دروس سودانية لميكيافيللي ….. تلاقي الفقيه و الرفيق


لو قُدِّر لمؤلف ( الأمير) أن يعيش في زماننا هذا و في سوداننا هذا لمزق أميره و جلس تلميذاً في مدرسة السياسة السودانية يتلقى تدريبات متقدمة في تطبيق مبدأه الشهير: الغاية تبرر الوسيلة ، فالممارسة السياسية تخطت مدرسته و أبتدعت ما يمكن تسميته بذرائعية ما بعد الأمير ، إن الحيل هنا أكثر مكراً و أقل خجلاً فكل شئ جائز فلا ثوابت و الثابت البنيوي الوحيد هو هدم الثوابت و كسر التابوهات بسهولة تامة ، فحتى فتح المكاتب في إسرائيل و تلقي دعمها أصبح أمراً عادياً لا يخجل منه فاعله بل يجاهر به و يفتخر و يتصدر بفضله مجالس السياسة و يكسب بفضله فائض قيمة في سوق النخاسة السياسي فيصبح نجماً له كل مواصفات نجم الشباك إذ لكل جمهور نجم شباكه … و الآخرون الحلفاء ما بين صامت و مبرر و متفهم و سعيد يكتم السعادة و تتسرب علاماتها من لحن قوله .
إن ظاهرة عدم النضج السياسي التي تجعل الشخص ينتقل من النقيض إلى النقيض و يغير ثيابه الفكرية بنفس سهولة تغيير ملابسه دون تدرج يجعل النقلة مفهومة يحتاج إلى نظر من مختصين يحللون الظاهرة و يفسرون مسبباتها بطريقة علمية بحتة . فالكودة عضو هيئة علماء السودان أصبح في لحظة كالمحلل المستعار لوثيقة فجر كاودا الحرام بعد طلاق الثلاثة الذي أوقعه البعض و الطلاق الرجعي الذي لوح به آخرون ، فالكودة الذي نفى توقيعه على الوثيقة بدا و كأنه يتبرأ من سوءاتها الظاهرة التي لا يغطيها مكياج الإستدراكات و التوضيحات و التعديلات الموعودة و لكنه في ذات الوقت قد ذكى الوثيقة إذ جعلها مناسبة لبدء علاقته بالثورية ، و هنا يحق لنا أن نتساءل : كيف يمكن للفقيه عضو هيئة علماء السودان أن يجعل من الوثيقة التي أحرجت حتى غلاة العلمانيين مدخلاً لعلاقته بالثورية ؟! كان يمكن تفهم ذلك لو أن الثورية قد صاغت وثيقة أقل جذرية في قطيعتها مع ثوابت الفقيه و بذلك تمد رأس الحبل للفقيه الغاضب فيمسك بطرفه جاعلاً من مضمونها التصالحي حجة تقيه تهمة الخفة السياسية و تساعده في تجسير الهوة بين أصوليته المتمردة و الماركسية المتأمركة المتعنصرة المعادية للمشروع الإسلامي في أصله لا تطبيقاته الإنقاذية فحسب . فكيف يبرر الدكتور الكودة ارتماءه في أحضان الجبهة الثورية في لحظة كشفها عن وجهها بالغ القبح ؟ عربون الصداقة الذي قدمه الكودة بدا خفيفاً و مدلساً ولا يسهل تسويغه و من ثم تسويقه و قد ظهر في خطابه بعد التوقيع كمن يقتات مثله مثل آخرين على مائدة قرنق الفكرية بتكراره لأطروحات المركز و الهامش و العنصرية و غيرها من مفردات قاموس قرنق 
الحركة الشعبية في وثيقتها بدت متعجلة لتسويق سودانها الجديد لدى قوى المعارضة بعد أن كانت في السابق رهينة جوبا و مساوماتها من أجل الوصول إلى الإنفصال الأمر الذي كان يجعلها تتجه بثقلها التفاوضي من أجل الجنوب و تحصل على التنازلات هناك مقابل تنازلات للحكومة فيما يخص الشمال ، أما و قد نالت ما أرادت فقد حانت لحظة المساومة داخل الشمال لتعظيم مكاسبها في الشمال و لتصل إلى ذلك فهي في حاجة إلي ظهير شمالي وجدته بسهولة في معارضة ضعيفة و يائسة و حكومة لا تجيد ترتيب أوراقها و لم تستطع حرمانها من ورقة المعارضة بتفاوض حقيقي مع المعارضة  . لو قُدِّر لأي مفاوضات أن تجري بين الحكومة و قطاع الشمال فلن تكون المعارضة سوى كرت يستخدمه عقار لتعظيم مكاسبه كما استخدمتها حركته مراراً و لن تجد المعارضة إلا ما وجدته طوال الفترة الإنتقالية : حليف مفترض يشارك في السلطة و ينعم بإمتيازاتها و لا يتحمل تبعاتها و لا رهقها و يمارس المعارضة و لا يكابد حرمان المعارضين ! ، و إن نجحت الحركة مسنودة بالخارج و بقوى المعارضة في إسقاط التظام ، فستكون الحركة هي القائد الفعلي الذي يفرض مشروعه بقوة سلاحه و سنده الدولي فهي قد أفلحت منذ الآن في تظهير صورتها كقائد فعلي للمعارضة و راسم لأجندتها 
دعو الكودة يعود و يتلمس صدى خطوته ، لا تسجنوه فقد سجن نفسه في أحلام كاودا الآيلة للسقوط في أي لحظة حاوروه بالتي هي أحسن عسى أن يتحرر من سجنه الإختياري ، حاوروا المعارضة ليس لمنع جوبا و ربيبتها من استخدامها فحسب بل لبناء سودان يسع الجميع … لا تكونوا ميكيافيللي الآخر .
ابراهيم عثمان