الصادق الرزيقي

مسحــــت عــــنـــــه الــــتراب.. أناملُ الغســــــقِ!!


[JUSTIFY]
مسحــــت عــــنـــــه الــــتراب.. أناملُ الغســــــقِ!!

«أ»
حين كان يقف على حافة الذكريات والدرب في ناظريه اشتبه، ومضت في عينيه بارقة كأنها بقايا شهاب قديم رآه في ليلة من ليالي قريته المظلمة، قال في نفسه «إن الزمن مثل شراع ضخم كلما ملأته الرياح شق المدى أمامه وانزلق بزورقه بلا توقف.. فلماذا أتوقف عند محطة واحدة وقطار الزمن يمضي؟!».
تحدث إلى أقرب المقربين له وهو ظله الذي يلازمه، عن تلك الخيالات السكرى القديمة التي تجوب فياح نفسه في زمنه السحيق، وقال لظله..«ما الذي كسبناه في هذا الرحيل الطويل؟»… لا شيء .! ربما كانت هذه هي إجابة الظل الذي قهقه ساخراً ورددت صدى ضحكته المجلجلة الآفاق.. ثم أطبق راحتيه على الفراغ الذي بينهما كقابض جوهرة يوماً ليختال بها ويزدهي..
كانت الظلال على امتدادات البصر… متذبذبة الألوان تزلق في الهواء.. وكان سرابها الأرجواني المشرب بلون الذهب يلمع، كأنه قد سرق من بضاعة الشمس.. ثم ردت بضاعتها إليها!!
وكانت التلال القريبة من حافة الذكريات والدروب المشتبهات.. معشبة السفوح والهضاب.. تسيل أودية خيالات مترفة تُغرف منها أقداح وأحلام!!
ويشحذ العمر نصله، ورقاب الناس كالعصافير المرتعشة تئن من اصطكاك أسنان الزمن الجوعى، كان يعلم أن حياته تحت رمية صياد، فيرتمي للظل الصاخب الغاضب في اتئاد غريب، وعقارب الساعة تلسعه في قلبه فيسري سم الشيخوخة في دمه، بعد أن عاش وهرم، ليرى آماله تغرق في لجة الضياع..
«ب»
اتكأت سنوات العمر على ظهره فلم يحتملها فتقوّس، غار بؤبؤ عينيه في حجريهما، وتثاءب كذئب غادر لئيم مغمضاً عيناً ومرخياً أهداب أخرى لتبقيه يقظاً كمفترس شديد الاحتراف.
وقال بهمس سمعته النجيمات المستيقظات في تلك الليلة المعتمة: «علمتني الحياة أن نباح آلاف الكلاب لن يضير الغيوم في الليل الضرير».
ردت عليه نجمة ساهمة مسهدة متمردة على الظلام: «الليل تابوت الأنين والأغاني والنباح.. فماذا يضير الكلاب من أشباح الغيوم الليلية الداكنة»!!
ثم دوى صوت بدر شاكر السياب من بعيد وراء الأفق والأكمات والغيوم والنباح والظلال والنجوم الغارقة في بركة الغسق:
سوف أمضي أسمع الريح تناديني بعيداً
في ظلام الغابة اللفّاء.. والدّرب الطويل
يتمطى ضجراً، والذئب يعوي، والأفول
يسرق النجم كما تسرق روحي مقلتاك
فاتركيني أقطع الليل وحيداً
سوف أمضي فهي مازالت هناك
في انتظاري
٭٭٭
سوف أمضي.. لا هدير السيل صخّاباً رهيباً
يغرق الوادي، ولا الأشباح تلقيها القبور
في طريقي تسأل الليل إلى أين أسير
كل هذا ليس يثنيني فعودي واتركيني
ودعيني أقطع الليل غريباً
إنها ترنو إلى الأفق الحزين
في انتظاري
٭٭٭
سوف أمضي حوّلي عينيك لا ترني إليّا
إن سحراً فيهما يأبى على رجلي مسيراً
إن سراً فيهما يستوقف القلب الكسيرا
وارفعي عني ذراعيك.. فما جدوى العناق
إن يكن لا يبعث الأشواق فيّا؟
اتركيني ها هو الفجر تبدى، ورفاقي
في انتظاري
«ت»
على غصن رطب من السنوات الثمانين من القرن الماضي، نزل من قطار نقل ليلي كسول، وصل إلى محطة السكك الحديدية بمدينة نيالا ذات مساء شتائي دفئ، رجل خمسيني علا الشيب مفرقيه، في يده حقيبة سفر صغيرة من قماش المشمع عليها شعار سودانير بلونيه الأصفر والأزرق الغامق، المحطة خالية تماماً ليس هناك إلا العاملون في وردية تلك الساعة من أوشحة الليل من عمال وموظفي محطة القطارات التي نشأت في السنوات الخمسين من القرن الماضي ..
ويبدو أنه لأول مرة يحط في هذه المدينة الغافية عند هاتيك الربى من الظلام والبرد الخفيف، التقطت أذناه صوت غناء وحداء شعبي لإحدى قبائل البقارة من الاتجاه الشرقي لحي طيبة الواقع شرق محطة القطار، لكنه لف شالاً رمادياً حول عنقه ورأسه الأشيب، وعلق على كتفه حقيبته وسار في الاتجاه الغربي مخلفاً المحطة وراء ظهره، يبحث عن سيارة أو أية وسيلة نقل تقله إلى المكان الذي يقصده.
كان يمشي بخطوات خفيفات بلا صوت، كأن قدماه خفي بعير، وبعض الحصى في الطريق الترابي ينزلق على قدميه وراء خفي البعير.. تجاوز بيوت العاملين في السكة حديد، تركها على يساره وسار وسط شارع عريض وميدان فسيح، لا أحد في الطريق والميدان سواه، حاصره قطيع من الكلاب كان يمر مسرعاً من هناك نبحته ثم مضت حال سبيلها وابتلع الظلام نباحها، كأن عرفت أن الرجل غريب في الديار..
ثم لاح له في ضوء المصابيح البعيدة، خيال شبح يمشي نحوه في هدوء.
«ث»
اقترب منه الشبح القادم في هدوء.. فتبينه.. فإذا هو رجل أشعث الشعر، طويل نحيل كشجرة دوم هرمة، عليه جلباب مشقوق من أعلى الصدر حتى وسط بطنه، في هيئة المجاذيب والدراويش، توجس منه خيفة، ولم تأخذه الظنون بعيداً فقد كانت البلاد آمنة وأهلها مسالمون في تلك الأيام، وكانت نيالا هانئة وادعة لا يخشى منها في الليل إلا جنون الكلاب.
سلم عليه.. فقال له الشبح الليلي:
«يا الجاي من بعيد … أبعد من التجارة والسوق».
ثم قهقه بصوته مثل الفحيح في صمت الليل وسكونه ومضى بعيداً.. وذاب في العتمة كفص ملح أو خيط دخان.
توقف الرجل القادم من بعيد برهة ومضى حتى رئاسة الشرطة «الكومندانية»، استوقفه عسعس الليل وبعض رجال السواري، وعرفوا هويته ثم ساعدوه حتى وصل إلى مقصده وهو بيت قريب له في حي بوسط المدينة، وغفا بعد صلاة الفجر حتى الضحى ولازمه الشبح الليلي في رؤاه وأحلامه القصيرة.
«ج»
عند منتصف النهار أو قبل الظهيرة كان في قلب السوق، باشر مهمته التي جاء من أجلها، وهي البحث عن قريب له «تاجر» جاء من صقع بعيد في أواسط السودان إلى نيالا في خمسينيات القرن الماضي ولأكثر من ثلاثين عاماً لم يعد.. كانت تصل منه خطابات وأنباء ثم انقطعت أخباره وطواه النسيان ولم يعد أحد يعرف له مكاناً ولا رواية.
بحث عنه.. عرفه كثيرون لكنهم مثله لا يعرفون له خبراً، قيل أنه ذهب في أعماق دارفور وبعضهم ظنه في تشاد أو إفريقيا الوسطى أو في دار أندوكا في الجنينة أو في أرياف الطينة في رعاية السلطان دوسة أو مع العرب البدو في بواديهم المختلفة، لكن لا شيء ولا خيط يقود له.
انقطع «عشمه» من الساعات الأولى في مهمته وبحثه، لكن بصيص أمل وحيد ذكر له أنه لا بد أن يصل إلى نهاياته.. فذهب يبحث عن بقاء هذا البصيص الذي ربما أدركه الزماع.
«ح»
ذكروا له أن قريبه هذا، عندما أتى نيالا وكان في شرخ الشباب.. وكانت المدينة في شرخ الشباب وربيعه وزهوه أيضاً، كانت الأحياء فيها تنشأ وتسمى حسب المناخ الدولي وتقلباته والأحداث القريبة والبعيدة، فحي «السد العالي» نشأ عند قيام مشروع السد العالي في مصر، وحي «الكنغو » تزامن ظهوره مع عملية اغتيال باتريس لومامبا رئيس وزراء الكنغو وصانع استقلالها، وحي تكساس أطلق عليه الاسم بعد عملية اغتيال الرئيس الأمريكي جون كيندي في ولاية تكساس الأمريكية، وكان حياً طرفياً يصعب عبور شارعه ليلاً في ذلك الأوان، وحي «كوريا» ترافق نشوؤه مع الحرب الكورية في الخمسينيات من القرن الماضي.
قالوا للرجل الغريب، إن قريبك وهو في شرخ الصبا، كانت له «شلة» من الأصدقاء يرتادون «إنداية» في حي طرفي في المدينة، وكان يبقى هناك أياماً بلياليها مخموراً بلا وعي.. وعندما فقد خبره كان هناك ولا تدري حتى صحبته وشلته عنه شيئاً.
فقرر الرجل البحث عن تلك «الإنداية» التي وجدها بعد بحث مضنٍ أثراً بعد عين.. لكنه عرف أن صاحبتها وقد طعنت في السن تسكن في حي آخر .. فذهب إليها وقلبه يخفق بالأمل!!
«خ»
وجد امرأة تجاوزت الثامنة والسبعين من عمرها.. ضعف بصرها وتساقطت أسنانها، وشعرها المبيض مشط بشكل دائري وقد تدلت خصلاتها القصيرة فوق جبينها ولم تتجاوزه، لكن لم يدركها الخرف بعد، تابت من سنوات من صناعة الخمور، وتركت تلك المهنة فقد أجهدها الزمن وأجهدته.
جلس إليها وهي على عنقريب قصير تمسك عكازة مثل الشعبة بكلتا يديها، التصق لحم وجهها بعظامه.. سألها عن قريبه وبأوصافه واسمه.. بدأت تتذكر وتتذكر، وكأنها ملدوغة صاحت به:
«الزول أبو فلجة وسن دهب»
قال لها بلهفة بالغة: «نعم.. نعم .. نعم».
حكت له الحكاية:
«في ليلة شديدة الظلام.. بعد نهار قضاه في «الإنداية» مع أصحابه وشربوا «16» «دلنق» مريسة «إناء من الفخار تباع فيه الخمر البلدية المصنوعة من الذرة»، وأكلوا ثلاثة تيوس، تركوه نائماً قبيل المغرب وذهبوا.. صحا عند منتصف الليل وجد الجميع قد انصرفوا وهو نائم على الأرض.. استلقى على ظهره وقد فاق قليلاً من تأثير الخمر، توسد كلتا يديه ونظر للنجوم اللامعة، وفجأة سمعنا بكاءً طويلاً طويلاً … كان يبكي كالطفل الغرير ويستغفر.
وقالت: «قلنا كلنا وليد دار صباح جن والله».
وواصلت: «ظل هكذا حتى موعد صلاة الفجر واغتسل وغادرنا وغاب من ذلك اليوم.. فلم يعد ولم نسمع عنه شيئاً».
عندما هم الرجل بمغادرة بيت صاحبة «الإنداية» القديمة، اتكأت المرأة على عكازتها وسارت معه حتى باب بيتها.. ودعته وتراجعت خطوتين.. ثم التفتت له وقالت ما شاب له رأس الرجل الزائر مدينة نيالا وكاد يقع على الأرض.
«زولك دا ما لاقاك بالليل جنب السكة حديد في الفسحة الكبيرة»!!
ولربما غابت هي في تلك اللحظة وراء الظلال الملونة!!

[/JUSTIFY]

أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة