ثقوب في ثوب الفيدرالية: تجربة انتخاب الولاة من ولاياتهم تثير عاصفة جدل
1
* بذور الخلاف
القلق الذي أخذ بتقاطيع وجوه قادة المؤتمر الوطني وهم ينهبون الطرق نهباً صوب عواصم الولايات في مواسم الشورى ليس وليد اللحظة، وإنما هو تراكم سنوات بعيدة حول شتول الفدرالية، والأعشاب السامة التي نمت حولها، تاريخياً كان الانفجار الداوي بين الإسلاميين في ذروة مفاصلتهم لأسباب معلومة من ضمنها انتخاب الولاة، وانعتاق الولايات من القبضة المركزية، وهي واحدة من القضايا الخلافية الكبيرة التي شقت صفهم، الشيخ الترابي هو أول من دعا إلى انتخاب الوالي وتحرره من هيمنة المركز، مبررا الأمر بنزعة انفتاحية وديمقراطية تضمن المشاركة الفاعلية لأبناء الأقاليم في تقرير شؤونهم وتنمية مناطقهم، بعدها أقر الأمر في دستور نيفاشا، قبلها كان الوالي يعين على طريقة الدولة الأموية، تَعْجِم الإنقاذ أعواد كنانتها وتختار شخصا تثق فيه وتدفع به إلى ولاية بعينها، شريطة أن لا يكون من ذات طينة الولاية. فيما بعد انقلب الشعبي على ذلك الشرط المُضمَّن في دستور التوالي، وصدَّر للصحافة موقفا آخر على لسان مسؤولة المرأة التي طالبت بالمزيد من الحرية للولايات، وأن ينتخب الوالي من نفس الولاية، لأن ذلك من شأنه أن يجعل المواطن مسؤولاً تجاه الوالي، وكذلك الوالي يكون مسؤولاً تجاه المواطن “هو انقلاب على انقلابهم الأول فيما يبدو”.!
2
* تهميش المهمشين
ما لنا وموقف الشعبي، الأسئلة المتناثرة هذه الأيام تقاوم في عناد تام دوافع تمكين أبناء الولاية وتثير عاصفة التهميش من جديد. تهميش المهمشين في السابق، بالخصوص في مناطق بعينها داخل الولاية، بجانب تأجيج جذور الصراع القبلي وتمظهره في مؤتمرات الشورى، بل وتنزع للحكم على فشل الولاة في تحقيق ولو القليل من مطروح برامجهم الانتخابية، تؤمن قدرا من الاستقرار والتنمية. الشاهد أن معظم مرشحي الحزب لم يحظوا بالإجماع المطلوب وثارت حولهم شبهات ومطاعن كثيرة.
في ولاية الجزيرة، على سبيل المثال، زج باسم البروف الأمين دفع الله في قائمة الشورى دون إخطاره، الأمين فوجئ باسمه يمضي دون موافقته، في تلك اللحظة كان هو على رأس لجنة فنية إجرائية محايدة في شمال كردفان تنظر في قوائم المرشحين، الأمين أقر بوجود سلبيات وإيجابيات للممارسة الشورية، مؤكدا لـ(اليوم التالي) أن اللائحة تتعرض للمراجعة، تجنبا لتلك السلبيات. فكرة الوالي المرشح بالنسبة لرئيس لجنة المؤتمرات الوظيفية وعضوء اللجنة العليا للبناء والانتخابات، يشوبها قلق بائن سيما وأن السلطة تمكنه من إحراز أعلى الأصوات، وإن كان الحزب لا يبالي بها في اللمسة الأخيرة، التجربة أثبتت أن الوالي هو الأول عدا ولاية نهر النيل، وهذه تحمل في جوفها الكثير من المعاني. دخول الوالي يؤثر سلبا في النتيجة، البروف يستهدي بتجربة شمال كردفان التي مرت بسلاسة وحصل فيها إجماع كبير. حيث فتح باب الانسحابات وهو أمر تجيزه اللائحة قبل إجراء العملية، وعندما أصبح العدد سبعة اعتبروا فائزين بالضرورة.
3
* “لايك”.. وبارقة أمل!
بالنسبة لتجربة نهر النيل، هنالك من ينظر إلى الجانب المشرق فيها، ولا يقدح في مكانة الوالي الحالي، بل يمتدحها ويعمل (لايك) قبالة صورة الجنرال. خروج الهادي عبد الله، بحسب إفادة فتح الرحمن الجعلي يحسب له وليس عليه، أقلها هذه النتيجة التي تقرأ من عدة زوايا، فهي تعني للجعلي أن الوالي لم يعمل بصورة قذرة ليحافظ على مقعده، وتنعكس بصورة إيجابية أيضاً على مجتمع ولايته الذي يبدو أنه محصن ضد الطاعة العمياء والانقياد المطلق. الجعلي يضيف للجانب المضيء أن هذه نتيجة مرضية للرأي العام، ليس كونها أبعدت الهادي عبد الله، فهذا أمر يهم مخالفيه في ولايته، لكن لأنها أوضحت أن هنالك من يستطيع أن يقول لا.. ولا يساق بالصولجان.
4
* القضارف وأيام عبيد الله
لنعود إلى تجربة البروف الأمين دفع الله نفسه عندما كان وزيراً للزراعة بولاية القضارف، في ذلك الوقت فاز إبراهيم عبيد الله على ابن الولاية عبد الرحمن محمد سعيد، ما يدل أن ابن الولاية ليس بالضرورة هو مطلب جماهيري، قبل ذلك يدعو الأمين إلى ضرورة مراجعة التجربة سيما وأن أبناء الولاية أخذوا فرصتهم لحكم ولاياتهم، يتذكر الأمين ولاية القضارف عندما تناوب عليها الشريف وعبيد الله والضو عثمان وجميعهم من خارج القضارف، تلك الفترة كانت من أزهى الفترات وأكثرها استقراراً بالمقارنة مع الراهن. وعلى ذات النسق، كانت تجربة الحاج عطا المنان في دارفور وتجربة الحاج آدم يوسف في الشمالية، ودكتور نافع في البحر الأحمر، الرابط بين تلك التجارب كونها حققت استقرارا سياسيا وتنمويا، بالخصوص في دارفور. وخلص دفع الله إلى ضرورة العودة إلى ذلك العهد الزاهي، ويمكن للحزب أن يدفع بمن يريد طالما هو داخل السودان. ومع ذلك هنالك من يردد أن التجربة الأخيرة فيها إشراقات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. حيث خففت حمولة الضغط على المركز ودفعت بخبرات وطاقات الإنقاذيين لخدمة أهاليهم ورعاية وتنمية مناطقهم ومحاربة دعاوى التهميش.
5
* صراع الموارد والنفوذ
بالطبع شابت التجربة الحالية العديد من الشوائب، وبالخصوص بعض الولايات الطرفية. ولاية شمال دارفور فجّر فيها إعادة انتخاب الوالي صراعاً محتدما بين كِبِر وموسى هلال زعيم قبيلة المحاميد، وأخذ الصراع المتمحور حول الموارد والنفوذ بعدا قومياً واستقطاباً حاداً. في ولاية البحر الأحمر، نشبت شرارة الخلاف بين إيلا ونائبه محمد طاهر محمد علي الشهير بالبلدوزر، إيلا والبلدوزر من قبيلة واحدة ومع ذلك لم تسلم العلاقة بينهما من القطيعة، فكل يعتبر نفسه الأحق بحكم الولاية. المثير في الأمر هو بروز النعرة القبلية في ولاية النيل الأبيض، وهي التي سلمت طوال عهودها من ذلك، حيث استنفرت القبائل نفسها وشدت الرحال حتى مقر المؤتمر الوطني بشارع المطار للتظلم وطلب النصرة، وكادت أن تزهق أرواح بسبب ذلك. في الجزيرة كانت النزعة المناطقية عالية، كل محلية ترمي بثقلها، وتريد أن تحصل على مقعد الرجل الأول في قصر الضيافة، وعندما يتم الدفع بأيهما تنبثق الأسئلة الاحتجاجية.. من أي مكان خرج علينا ذلك الرجل؟. قطعا تتشابه وضعية ولاية سنار الشهيرة بالتنوع بولاية النيل الأزرق والنيل الأبيض نفسها. سنار ما يميزها أن واليها ظل لفترة طويلة في مقعده، وتجلت الأزمة في تفننه في عملية الإقصاء، الصراع لم يكن حول موقع الوالي وإنما تركز حول المواقع الوزارية، وقد لعب الوالي أحمد عباس في ذلك دوراً سالباً. القضارف وكسلا اتسمتا بالفتور والإخفاق. الضو الماحي هنا وحوله مجموعة صغيرة في مواجهة كرم الله عباس، الوالي المنتخب والمقال.. والذي تدعمه قطاعات واسعة، ومحمد يوسف هنالك والرفض الذي وجه له حتى من داخل الأسرة.. يوسف لا يمثل قبيلته، هكذا يردد بعض أعيان الشكرية المكتوين من لظى نيرانه. ويضيف الكثيرون، ولا يمثل أيضاً حتى بقية القبائل، إذن هو يمثل نفسه.
6
* طعون وممارسات
في معظم شورى الولايات، اشتعلت نيران الخلاف، وأعمل الولاة أياديهم في الكشوفات، ابتداءً بالمؤتمرات القاعدية والشورى، ومن ثم المؤتمر العام، وشهدت العملية برمتها تكتلات مقلقة وترهيب وإغراءات، بجانب الضغوط التي مورست لإخراج بعض الأسماء من القوائم، أو تراجع البعض في فرز الأصوات كما حصل في غرب كردفان لعبد الواحد يوسف، عبد الواحد يحظى بدعم الكثيرين في ولاية النفط والأبقار، وكما حدث أيضاً في الجزيرة بإبعاد عبد الرحمن سر الختم خشية فوزه في المراحل المتقدمة لجماهيريته، وإسقاط بعض العضوية من القوائم حتى لا تفسد خطط المرشح الحكومي. وتحدث مفاجأة ليست في الحسبان، في جنوب كردفان أيضاً، أبعد الأهالي الوزير الشاب الطيب حسن بدوي من قائمة المرشحين لمنصب الوالي وتربع الوالي نفسه في الرمركز الأول، بجانب الموالاة المطلقة وإجبار العضوية على القسم بكتاب الله القرآن وبذل الأموال والمناصب بغرض الحصول على أصوات المؤتمرين.
7
* الوجه الكالح
بين أيدينا إفادة مهمة تطالب بالتراجع عن التجربة الماثلة، وزير الدولة بالرعاية والضمان الاجتماعي، إبراهيم آدم، طالب بمراجعة الحكم اللامركزي، وبالضرورة فهو يقف موقفا مناوئاً لانتخاب الولاة من ولاياتهم، ويعزو رفضه إلى أن الرئيس منتخب ومفوض، وينبغي أن يختار طاقم الولاة بحسب مقتضيات كل ولاية وظروفها. إبراهيم يأمل أن يراعي الدستور المرتقب ذلك بذريعة أن انتخاب الولاة من ولاياتهم أضر بالنسيج الاجتماعي، مطالبا في الوقت نفسه بمراجعة الحكم المركزي الذي تفشت بسببه الجهوية والقبلية، وإيكال أمر النسيج الاجتماعي والسلام والوحدة إلى وزارات الشؤون الاجتماعية والمؤسسات التعليمية. ربيع أيضا يعزف على ذات المنوال بالقول، إن الحكم الفدرالي هو أنسب أنظمة الحكم لبلادنا، بحكم إتساع رقعتها الجغرافية وتنوع ثقافات أهلها ومواردهم وطبيعة حياتهم، ويستدرك بأن التجربة أثبتت أن درجة الوعي المتواضعة قد جعلت بقايا جهويات وقبليات تستفيد من الفدرالية في الحكم، وكان ينبغي التصويب نحو هذا الخطر والعمل على إزالته وعدم السماح له ليطل بوجهه الكالح وأثره المؤذي بعلو شأن قبيلة على قبيلة، وبالتالي ضرب الوحدة الوطنية في صميم أحشائها، إفادة ربيع القيمة تخلص إلى أنه ليست بالضرورة أن يكون الحكم الفدرالي وفقاً للموازنات الحزبية والمعادلات القبلية، أو أننا نسير نحو الحكم القبلي والجهوي وليس الفدرالي بأية حال، سيما وأن الفدرالية تعني بالدرجة الأولى التنمية المتوازنة والخدمات، والتشريعات التي تتناسب مع كل ولاية وسكانها، ولا تعني أن تكون الحكومة الولائية من أبناء قبيلة معينة أو جهة، فضلاً على ذلك بالإمكان أن يتم تشكيل الحكومات الولائية من وزراء أهل اختصاص بوسعهم أن يحيلوا الخطة الاستراتيجية للولاية إلى واقع بحكم خبرتهم وتأهيلهم، هكذا ينهي ربيع فكرته الناقدة والمحرضة في ذات الوقت على وعي جديد.
من خلال الإفادات السابقة والخيوط الناظمة، يتضح حجم المشكلة، حجمها ومذاقها المرير كمثمرة الحنظل، وينشب تحد أكبر يواجه الحزب الحاكم في عقر داره، وهو كيفية الخروج من هذا المأزق، وإذا ما كان الحزب يفكر في الانتقال إلى تجربة مغايرة، نبرة النقد الذاتي التي عبرت عن نفسها تبدو كلبنة ضمن صرح التراجعات المشيّد حديثاً في خطاب الحزب تلقفتها جموع الناقمين بذريعة الإصلاح الشامل.
عزمي عبد الرازق: صحيفة اليوم التالي
ي.ع