تحقيقات وتقارير

زيت “راجع” يتردد صداه في وسائط التواصل الاجتماعي..زيوت الطعام المخلوطة بالكيميائيات وبقايا المصانع.. عودٌ على بدء

[JUSTIFY]قبل أقل من شهر، وتحديداً في الرابع والعشرين من شهر أغسطس، فجرت صحيفة (اليوم التالي) قضية الزيوت المضروبة والمصنعة من (الصودا)، وبقايا مخلفات مصانع الصابون وزيوت الطعام في منطقة (السمير)، المتاخمة لمصانع سوبا غرب، بعد أن تسببت تلك الزيوت في حالات تسمُّم تضرَّرَ منها عشرات المواطنين هناك. وكشفت (اليوم التالي) في الاستقصاء الذي استهدف معامل الهواء الطلق وجود نشاط لتجار يمارسون تجارة هذا النوع من مداولة وتوزيع الزيوت الفاسدة، بعد شرائها من النساء العاملات في عراء وخلاء مصانع جنوب شرق الخرطوم على مقربة من حدود ولاية الجزيرة، وما إن تم نشر التحقيق حتى توالت ردود الأفعال تترى، ثم من بعد تداولت في وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، تحديداً في الأسبوع المنصرم، قصة مصنع يعيد إنتاج زيوت طعام مخلوطاً بالكيميائيات وبقايا زيوت المصانع التي تلقيها مصانع الزيوت بعد أن استنفدت حاجتها منها.

الفيديو الذي تستغرق مدة مشاهدته دقيقتين، كشف بجلاء تنامي ظاهرة الغش والتلاعب في أرواح المواطنين، بعد أن ضبطت شرطة حماية المستهلك إثر بلاغ تلقته بوجود مصانع لإنتاج الزيوت المغشوشة والمخلوطة بمخلفات كيميائية قاتلة.

المفاجأة التي ألجمت نظارة ومشاهدي الفيديو وكذا أفراد الشرطة وجهات حماية المستهلك التي داهمت مصنع بحري العشوائي، تعكس مدى اللامبالاة والعبث بأرواح المواطنين؛ ألوان من الأوساخ وزبالة المصانع والكيمياويات، مزجت ببعضها بعد أن تعرضت لنيران وضعت عليها أنصاف (براميل) حديدة متسخة تعلوها طبقات سوداء داكنة، المصنع من الخارج ربما لا يدع أحداً يشك في كنهه وما في البئر وداخلها، حيث تغطيها حوائط الطوب (البلوك) مع عروش الزنك الأمريكي الخفيف الذي بالكاد ما يحجب أبخرة أكسدة الزيت المتفاعل مع مواد كيميائية توصل متناولها على الفور للدار الآخرة عبر الموت السريع.

زيوت الموت السريع

مواد قاتمة من مخلفات المصانع منها السائل الأبيض الذي يشبه الشموع الجامدة ومنها الأسود الذي يشابه في لونه زيت محركات المركبات الراجع والمكرر، الروائح هي الأخرى كريهة وربما لا يطيق من داخل المصنع تحمل رائحتها النتنة، الكل في داخل المصنع من غير العمال في حيرة من أمر هذه البؤرة النتنة التي ينتظر من ورائها التجار أن يقذف بها المواطن البسيط – الذي لا يدري عنها شيئاً – في جوفه لتحيله هذه اللقمة عبر أطباق الطعام إلى مستشفيات الكلى والسرطان وأمراض الاستعصاء التي من الصعب التخلص منها..

مئات (باقات) سعة 18 رطلاً رصت بانتظام في انتظار رفعها عبار دفارات (الكانتر) قبل أن تداهم الشرطة وكر الإجرام وتبطل مفعول دخول هذه السموم الأسواق.

(السمير) زيوت من سم:

ففي السمير الشهر الفائت لم يكن الوضع بأفضل من بحري التي اكتشفت فيه سلطات حماية المستهلك حكاية الزيت الكارثة، حيث كانت منطقة السمير أقصى الخرطوم باتجاه الجنوب الشرقي، حيث تسببت مصانع زيوت الطعام العشوائية المنتجة من مخلفات المصانع هنالك لإصابة عشرات المواطنين وتلاميذ الأساس بحالات تسمم حادة جعلت أهالي السمير يلجأون إلى الشرطة لوقف العبث، الأخطر في زيوت السمير المضروبة هي اختلاطها بـ (الصودا) وبقايا الصابون وبقايا أوساخ زيوت الطعام بعد أن تُقلى في النيران، ويضاف إليها ملح طعام وشيء من مياه الصرف الصحي لتنقية الزيت مع خلطه مع زيت طعام، ليكون الناتج (باقة) زيت طعام، لكن مخلوطة بالسموم والكيميائيات التي ظهرت آثار عدم صلاحياتها للفور بعد أن حصلت حالات تسمم كثيرة في المنطقة، جهات اللجان الشعبية التي اتصلت بالشرطة ومحلية الكاملين لتقوم الأخيرة بمخاطبة وزارة الصناعة لوقف عبث إلقاء مخلفات المصانع في العراء حتى لا تقع في أيدي أصحاب المصانع العشوائية الذين يقومون بخلطها بزيوت الطعام وبيعها في الأسواق للمواطنين.

وسع الرتق على الراتق

جهات الرقابة المعينة بأمر المستهلك، يبدو أن الرتق قد كبر على الراتق، وأن أسواق الخرطوم بها من المخلفات و(البلاوي) ما يجعل المواطن يزهد في كل ما له علاقة بالغذاء، لجهة كثرة المخالفات والمضبوطات المضروبة وغير المطابقة للمواصفات والمقاييس، وما يؤدي للسرطانات والموت العاجل؛ والأخطر على ضوء ما يضبط هو قليل من كثير، وأن ما خُفي أعظم وأنكأ. المصنع العشوائي الذي تم ضبطه في الأسبوع الماضي ببحري يكشف بجلاء أن المحليات – كما تتهمها منظمات المجتمع المدني المعينة بأمر المستهلك – بعيدة كل البعد وتغط في نوم عميق، بجانب تغافلها عن تعقب المخالفات وحرصها على الجبايات والرسوم، دون أن تولي الاهتمام لأمر صحة وحماية المستهلك الأهم من عملها الذي من المفترض أن تقوم به في ظل هذه الظواهر السالبة التي باتت تظهر في كل يوم، وتجعل المواطنين في حيرة من أمرهم إزاء تفشيها وانتشارها.

دكتور ياسر ميرغني الأمين العام لجمعية حماية المستهلك السودانية، يرى أن قانون المستهلك في البلاد غير مفعل ومواده غير رادعة. وقال في برنامج بيتنا التلفزيوني، إن أصحاب مصانع الزيوت الرديئة والمخالفة للقانون والمتخذة من بقايا المصانع الكيميائية مواد لإنتاج زيت طعام، استغلوا ضعف وعدم رادعية القانون، فمثل قانون المستهلك بولاية الخرطوم غير رادع ومواده مشجعة على المخالفة في شأن المستهلك وحمايته، فإنها لا تتجاوز العقوبة في القانون السجن لمدة شهر أو أقل وتتراوح عقوبة الغرامة من 5 إلى 20 ألف جنيه.

ياسر يرى أنه في حالة غياب الدور الحكومي والمحليات في حماية المستهلك، ينبغي أن يضطلع المواطن بأمر حماية نفسه من المنتجات المضروبة والمغشوشة كأن يبلغ شرطة النجدة والعمليات أو يتصل برقم قانون حماية المستهلك المجاني، في حالة نما لعلمه وجود مصنع مخالف، أو سلع مضروبة، وأن يتأكد بنفسه عن تاريخ الإنتاج والصلاحية واسم المصنع ورقم تلفونه ومقره، حتى لا يقع ضحية للممارسات الشائنة.

لماذا خطورة الزيوت بالذات؟!

د. محمد علي الفاضلابي الخبير والمستشار في تكنولوجيا الأغذية، يرى أن الزيوت ثالث مصدر لمكونات جسم الإنسان من غذاء الكربوهيدرات والنشويات والبروتينات، ومن أكثر الصناعات الغذائية خطورة، ولاسيما أنها من أكثر المواد تلفاً لوجود ما يعرف كيميائياً بالأكسدة: وتحدث غالباً نتيجة تعرض مادة الزيت للهواء أو الرطوبة أو درجة الحرارة المرتفعة، فتنتج وتحدث بذلك الأكسدة أو (التفاعل) المؤدي إلى التحلل البكتيري، حيث تفرز البكتيريا أنزيمات تحلل الزيوت والدهون إلى أحماض دهنية قصيرة السلسلة ومتطايرة، هذه المواد لها روائح غير مرغوب فيها، وهي التي تدل على فساد الزيت..

الزيوت من مخلفات الصابون والصودا

المؤكد أن كل المصانع المغشوشة التي وصلتها (اليوم التالي)، كما في سوبا غرب مجمع المصانع أو مصانع بحري العشوائية التي تنتج الزيت المضروب، باكتشاف شرطة حماية المستهلك، فإنها تستفيد من جوار المصانع الخاصة بالكيميائيات والزيوت والصابون والشحوم والجلسرين والفازلين وغيره من البقايا والمخلفات الضارة، ليتم قلي ذلك كله واستخلاص الزيت في النهاية، بإضافة شيء من زيت الطعام، العملية أعلاه ليست ضارة ومسببة لعلل الباطن والكلي والسرطان كما يؤكد الأطباء بذلك فقط، وإنما لها من الآثار الصحية للمشتغلين في المصانع. القضية طرحتها علي الدكتور إبراهيم محمد أحمد مدير هيئة المواصفات والمقاييس الأسبق والناشط بجمعية حماية المستهلك السودانية، وفي ما يلي استخدام مواد الصوديا والصابون في زيوت الطعام، أكد أبراهيم أن إضافة هذه المواد الكيميائية للزيوت خطر ومميت وقال: “مادة الصوديا لو استخدمها الشخص خارجياً ولوث بها وجهه ويديه يمكن أن تتسبب له العمى وتقرح الجلد والأطراف”. ويضيف: “إذا كان تأثيرها في الجسم الخارجي على ما ذكرنا، فإن مخاطرها على المعدة أشد وأنكأ”.

زيت مخلوط بالسموم يسبب الفشل الكلوي

الجانب الصحي في المسألة أن الزيت المخلوط بكيميائيات وشحوم ومواد صرف صحي وصودا يعده الأطباء ضمن (المواد الحارقة ). وبحسب دكتور محمد الأمين اختصاصي باطنية الذي قال لـ (اليوم التالي) إن اجتماعه في زيت يراد تناوله عبر المعدة، يؤدي لتقيحات في الجهاز الهضمي، ويعمل هذا الزيت المخلوط بالسموم على ترسيب الكالسيوم الذي له دور في تجلط الدم مما يصيب من يتناوله بالتشنجات والإغماءات. ويضيف محمد: “الأخطر في موضوع تناول (الصودا) هو الانسدادات التي تخلفها المادة في مجري الجهاز البولي، وهذا يعني أن تنامي الحصوات قد يحدث في الكلى، وتختل وظائفها وربما يؤدي ذلك للفشل الكلوي”.

تردٍّ بيئي:

أصحاب المصانع العشوائية الذين يستغلون غياب الرقابة البيئية في جانب انعدام وجود معالجة للمخلفات الملقاة في العراء، يعمدون بجراءة إلى إعادة خلطها وإضافة مواد لها في صنع الزيت. إذن غياب قانون رادع لأصحاب المصانع الذين لا يتقيدون بعمل معالجة للمخلفات هو مشجع رئيس لأصحاب المعامل (الكيري) الذين ينشطون في صناعة زيوت الطعام من بقايا المصانع.

عائدة عدلان مهندس البيئة بالمجلس القومي للتنمية العمرانية، ترى في حديثها لـ (اليوم التالي) أن أصحاب المصانع يقعون في مخالفات قانونية حيال عدم تقيدهم باشتراطات بيئية وصحية في ما يلي عدم وجود أدوات المعالجة لبقايا المصانع. كما أن بقايا مصانع الزيوت والصابون وغيرها من ما يلقى في العراء لها آثارها البيئية الضارة على البيئة ككل.

حيدر عبد الحفيظ : صحيفة اليوم التالي
ي.ع
[/JUSTIFY]