حفريات الثورة بالنص.. مشرعة في انتظار الخريف
احتضنت (ولاء) ذات العشر سنوات داخل يدها الصغيرة بعض العملات المعدنية.. وأمنية واحدة هي شراء بعض الحلوى من البقال المجاور لمنزل اسرتها المطل على شارع الثورة بالنص.. ولكن ما إن خطت اولى خطواتها خارج البوابة حتى تسمرت في مكانها مذهولة بتلك الحفرية المخيفة التي كانت تسد أحلام امنيتها الى البقال.. تلفتت يمنة ويسرة ثم حسمت أمرها بغريزة طفولية بحتة وهي تتجه نحو أحد (الكباري) الخشبية المتهالكة التي صممت لتكون معبراً للمواطنين.. وضعت قدمها الاولى وقبل ان تضع الثانية اهتز (الكوبري) فأطلقت صرخة رعب.. وصل صداها لـ (بشير) عامل البنشر القريب الذي ركض نحوها وانقذها قبل أن تسقط في غياهب الحفرية التي نفذتها احدى الشركات وهي (ناصف سنتر سيرفس) في خطتها لادخال مواسير لتصريف مياه الخريف..
——–
سلحفائية الأداء
(ولاء) لم تصب بأذى.. لكن قصتها فتحت الباب على مصراعيه لإلقاء الضوء على المعاناة التي يعيشها اهالي الثورة بالنص سواء أكانوا المواطنين او أصحاب أعمال كأولئك التجار الذي أضطروا لاغلاق محالهم التجارية بسبب تلك الحفريات الضخمة التي أمتدت بطول شارع الثورة بالنص في ام درمان.. والتي تأتي ضمن فصول المعاناة والاستعداد لفصل الخريف..
لكن المثير في الموضوع ليس تلك الحفريات بل المدة الزمنية التي استغرقتها معاول و(دربكينات) الشركة المنفذة مانحة الاهالي الاحساس بمدى خطورة الوضع على حياتهم.. ودون النظر الى المترتبات التي يمكن ان تحدث جراء هذا الوضع الراهن الذي اقل ما يمكن ان نصفه به هو (الحصار)..
(الرأي العام) سبق وان خاطبت السيد حسن محمد فضل المولى وزير البنية التحتية عبر مدير الاعلام كمال كوكو.. وبالرغم من توجيهاته بضرورة الاسراع في العمل إلا ان سلحفائية التنفيذ ما تزال تؤرق مضاجع الاهالي وتصيبهم بالانهاك جراء كثرة الشكاوى التي كانت آخرها رسالة (ميمونة جمال ضرار) لبريد حضرة المسؤول بصحيفة (الرأي العام).. قسم التحقيقات.. وهي احدى مواطنات المنطقة التي لم تطلب أية ميزات او حوافز او خدمة.. بل طلبت ان ينقذها المسؤولون هي وبقية الاسر التي تنام يومياً واضعة يدها على قلبها في انتظار مفأجاة غير سعيدة في أية لحظة..
حيرة سيف الدين
الزميل «احمد دندش» التقى العديد من المواطنين واصحاب المحلات التجارية للوقوف على حقيقة الوضع هناك.. وكانت البداية من امام بنشر سيف الدين محمد الذي جلس واضعاً يده على خده في حيرة تحتاج طلاسمها لفك شفرة سريعة لمعرفة ما يدور بخاطره.. سألناه حول عمله والذي يعتمد بصورة كبيرة على انسياب الحركة بطريق الثورة بالنص.. فقال بعد ان اعتدل في جلسته.. (نحن كما ترون نجلس هنا طوال اليوم ولا نستطيع العمل اطلاقاً بسبب هذه الحفريات التي استمرت معاناتها لاكثر من شهر ونصف الشهر.. واضاف: المشكلة لا تقتصر على توقف العمل فحسب بل تتعدى ذلك الى خطورتها على اهالي الحي.. وخصوصاً الاطفال.. فهذه الكباري الخشبية المتهالكة لا تصلح اطلاقاً لأي شئ ناهيك عن تحملها لوزن انسان.. وقال وهو يشير الى عمق الحفرية هذا العمق يتطلب جسراً اقوى وامتن.. وذلك لضمان سلامة الاهالي طالما ان ميعاد حل هذه المشكلة ما زال في حكم الغيب..
اغلاق ورشة
اما ابو القاسم مختار صاحب ورشة تجاور بنشر (سيف) فلم يختلف معه حول اية جزئية بل اضاف انه اغلق محله نهائياً مؤكداً عدم جدوى فتحه منذ الصباح الباكر مفضلاً ان يبحث عن وظيفة اخرى حتى تحل المشكلة.. وقال بأننا مطالبون بالكثير من الالتزامات اهمها الايجارات فمن اين ندفع ايجار الشهر.. ومن اين نأتي لاسرنا بالقوت والزاد.. وختم حديثه ساخراً.. (ما عارفين حصارنا دا حينتهي متين)..
البقالة الخجولة
بقالة (الظاعن) ايضاً كانت تبدو خجولة وخالية تماماً من أي زبون.. فاقتربنا من صاحبها الذي بدا متوتراً وهو يحكي عن معاناته في وصول البضاعة إليه من مندوبي الشركات.. وقال: اصحاب الشركات وخاصة المنتجات الثقيلة يجدون عناءً كبيراً في ادخال البضاعة وهذا ما تسبب في كساد البيع.. كما اضاف ان الزبائن ايضاً صاروا لا يملكون الشجاعة لاجتياز هذه العقبات الخطرة للوصول الى ما يريدونه من تمويل غذائي..
مطلقاً نداءً بأن يستوعب القائمون على الامر خطورة الموقف ويقومون بتشييد (كباري) متينة لانقاذ ما يمكن انقاذه..
متى الفرج؟
(آدم) صاحب محل لبيع الاثاثات لم يكتف بمعاناته بل زاد عليها معاناة كل تجار ومحلات الثورة بالنص وضياع ارزاقهم بسبب هذه الحفريات التي صممت خصيصاً لكي تخدم اهالي المنطقة وليس لارهاقهم وتضييعهم.. وسأل سؤالاً واضحاً (متى الفرج؟؟)
عمل عشوائي
المواطن (يوسف محمد) احد مواطني الحارة التاسعة اكد ان ما يجري الآن عبارة عن عمل عشوائي وغير منظم واضاف هذه هي المرة الثانية التي يغلق فيها شارع الثورة بالنص بهذه الطريقة.. مضيفاً انه ينبغي ان يتم العمل على نسق واحد و(نفس) واحد ولو طالت ايامه.. لكن تكرار هذه الحفريات هو ضرب من ضروب التخلف ليس إلا.. وقال الحفريات الغرض منها تركيب مواسير لتصريف مياه الامطار.. وانا اقول بدوري ان ارضيه الثورة معروفة بانها (منخفضة) وبالتالي لا اظن ان هذه المواسير ستؤدي اي غرض.. بل على العكس سنعاني قريباً من عودة الحفريات مرة اخرى لإخراجها.. واسألوني عن ذلك بعد مرور عدة أشهر..
بالتأكيد لا
أما (إبتهال يس) ربة المنزل التي التقيناها في طريقها الى منزلها بعد رحلة (معاناة) و(مخاطرة) كما قالت في سبيل احضار بعض الرغيف او الخبز.. لم نسألها لأنها اطلقت العنان لغضبها وهي تؤكد ان ما يدور الآن بشارع الثورة ما هو إلا عدم اهتمام بامر المواطن البسيط.. وعدم مبالاة لما يمكن ان يحدث له.. واضافت: قبل اسبوع كادت ابنة أخي تسقط في هذه (الهوة) مشيرة الى حفرية ضخمة كانت من العمق تكفي لاسكات صوت الفتاة الى الأبد.. وقالت وهي تنظر الى العمال المنتشرين في الشارع حتي العمل يمضي ببطء ولا ندري هل سيكون رأي المسؤولين نفس الرأي الغامض اذا كانت هذه الحفريات امام منازلهم.. وهزت رأسها علامة النفي وهي تقول: (بالتأكيد لا..)
عامل بلا عمل
أحد العمال كان يجلس تحت ظل احد الاشجار وهو يعبث باحد الموبايلات.. اقتربنا منه وسألناه حول ما يدور.. فنظر الينا في لا مبالاة وقال :(والله ما عارف اي حاجة).. اردنا سؤاله حول فترة الحفر التي استمرت لمد طويلة والعديد من الاشياء.. إلا انه اشار لنا الى مكتب قريب قائلاً: (المهندسين هناك)..
المصاصات والمساطب
تركناه يواصل عبثه بالموبايل.. واتجهنا نحو المكتب.. لنسأل (سيد عمار) المقاول المنفذ للشركة حول ما يجري في شارع الثورة بالنص.. فقال : الشركة المسئولة عن تنفيذ هذا المشروع هي شركة (ناصف سنتر سيرفس) واضاف: نحن نقوم ما بوسعنا في سبيل اكمال هذه الحفريات لكي تلحق بفصل الخريف.. واضاف هناك معوقات كبيرة تواجهنا وهي التي تسببت في تعطيل العمل وازدياد ايامه واولها تلك المساطب الضخمة التي تنتشر داخل ارض الثورة.. والتي نقوم بتكسيرها بواسطة الحفر.. لانه ليس من المعقول ان نقوم (بتفجيرها) وسط الاحياء السكنية لذلك اخذت مزيداً من الوقت.. بالاضافة الى انتشار آبار (المصاص) التي تعتبر العائق الثاني في سبيل اكمال العمل.. ونحن ايضاً تعرضنا لخسارة مادية بعد سقوط قلاب للشركة داخل احدى الحفريات بسبب (بئر المصاص) التي كانت اسفله.. وقال: لدينا (120) عاملاً يقومون بجهد كبير لانجاز العمل في اسرع وقت.. وليس لدينا ما نقوله للاهالي سوى الصبر..
المواسير وصلت
أما المهندسة (انصاف ماهر) فقد اكدت على حديث المقاول واضافت انهم حالياً يقومون بوضع الرمل على الحفريات ولم يتبق إلا وضع (المواسير) التي وصلت (حديثاً).. واكدت ان العمل لن يستغرق اكثر من اسبوع.. (وللعلم فافادتها هذه كانت قبل اسبوعين من صدور هذا التحقيق).. مع العلم بأن هذا العمل بدأ منذ شهر ابريل.. وختمت المهندسة حديثها بأنها تقدم ما بوسعها لكي يلحق المشروع وينفذ قبل حلول فصل الخريف..
الحلقة المفقودة
ونحن نتساءل بدورنا عن مدى صبر المواطن على هذه المحنة التي استمرت منذ شهرين قبل الآن.. وحتي اليوم لا تزال عيون اطفال الثورة تراقب الحفريات على أمل ان يعودوا للهو واللعب من جديد دون خوف او خطر.. ويبقى الأهم ان ندرك تلك الحلقة المفقودة في سر ذلك (الحصار).. بالرغم من الميزانية الضخمة التي تم التصديق بها لاكمال العمل..
فمن يفك (الحصار) عن اهالي الثورة ؟؟ ويزيح عنهم ذلك الهم الذي تزيد كوابيسه في الليل بصورة خاصة.. فهل من مجيب؟؟؟
المصدر :الراي العام