مــــاذا نــريـــد مـــن الحكـــومـــة؟
مع تأليف كل حكومة كما يقول إخوتنا في لبنان، يتجدَّد لدى كثيرٍ من السودانيين شجنٌ وحلمٌ، بأن تستطيع الحكومات المتكررة التي تولد من أحشاء الإنقاذ ورحمها الولود، أن تعيد إليهم السودان القديم، كما كتب ونافح وطالب الدكتور عبد الله علي إبراهيم قبل سنوات خلون، الذي غادرهم وتسرب من بين أياديهم كدخان عجول وتلاشى في فضاء الصراعات والسياسات والحروب وأثرياء المرحلة وعجز القادرين على التمام..
نحن أبناء الضهاري والمدن والأصقاع النائية والفرقان والقرى الكسيرة الأفئدة، ونحن القابعين على أرصفة وهامش السياسة، والهائمين على وجوههم.. لا نريد من الحكومة شيئاً غير أن تعيد لنا نضارتنا التي ذهبت، وكرامتنا التي أُريق ماؤها، ووجهنا القديم بنظراته الشهباء وأنفه الذي كان يناطح الجوزاء والذرى الشم التي لم يتطأطأ لها جبين في زحمة ضجيج الحياة…
إذا كان بمقدور هذه الحكومة في ظل الأزمة الاقتصادية والمعضلة الاجتماعية وتنافر الوجدان الوطني، ووسط ركام الدخان والحريق والبارود في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ومستصغر الشرر في الشرق، أن تفعل شيئاً، فعليها أن تفكر أولاً في رسم ملامح بلدنا من جديد، بأمنه وسلامه وأفراحه الكبرى والصغرى وأغنياته وأمنياته وحكايات المساء وطمأنينة الليالي الوادعة، حيث كان الليلُ للسمر والسهر والنَّهار للكدّ والعمل، والنفوس راضية والقلوب صافية والأعين ملأى بالثقة والعز والكبرياء..
لقد سحقتنا الأزمات الاقتصادية حتى تيبَّست أجساد المواطنين من عوزها وفقرها، واكتنزت وتكوَّرت بطون قلة آخرين ونعمت جلودهم وصارت ملساء كلوح الزجاج، وتعطَّل الإنتاج وانحسر الصادر وكثر الهامشي والكمالي من الوارد، وتضخَّم الفساد وطغى وقلَّ المعروف وضاعت المروءة ومات الضمير..
لقد مضغتنا الحروب والنزاعات والاصطفافات القبليَّة والجهويَّة، ضرستنا بأنيابها ووطَّأت وجوهَنا بميسهما الناري اللاهب، فلم يبقَ من جسد الوطن شبرٌ إلا وفيه طعنة رمح وضربة سيف، وماتت الحكمة والعقل والرُّشد فيه… كما تموت العير!
لقد سلبتنا جائحة التجريب الخاطئ والسياسات الهواء والوافد من العادات والقِيم والأفكار، أعزّ ما نملك، فنكاد نخسر سلامنا الاجتماعي ولا نربح قِيمنا وموروثاتنا السمحاء ومودتنا الناصعة الناجعة، ظهرت مثل البثور والدمامل ظواهر وعوارض لم نألفها وقوارض لم نعرفها، فثقل القلب من الهم وتعب العقل من صعوبة الفهم، وكلَّما أرهق الذهن السياسي وأربك حالنا بالتجريب والترغيب والترهيب… زادنا كربًا!! وكانت السلطة تظنُّ، وهي تسوس أمر البلاد، بأنها كما يقول أبي الطيب المتنبي..
فتَّانة العينين قتَّالة الهوى… إذا نفحت شيخاً روائحُها شبّا!
لقد ظلَّت بلادُنا تجيدُ حرفة الانتظار والتذاذي بالأصائل والضحى، وتنتظر أن تطرد الحكومات الفقر والجدبا، لا أن تجدب الحكومات بيادرها وحقولها، وتجعل الفقر يُلقي عصاه ويتفجفج جالساً بين الناس ومقيماً كجلمود صخرٍ لا يتزحزح!
فعلى الحكومة الجديدة التي قوامها الشباب والصف الثاني من قيادات المؤتمر الوطني، وقد يلحق بخطوته شركاؤه من الأحزاب الأخرى التي تنوي التغيير، عليها أن تعيدنا إلى السودان الذي نعرفه.. وملاذنا الذي نستدفئ فيه وقصعتنا التي طعمنا منها وموردنا الذي نهلنا منه وما ارتوينا!
لا تستطيع الحكومة ذلك إلا إذا عالجت المشكل السياسي، بمزيد من التوافق الوطني وجمع الكلمة والصف ونبذ الخلافات ورتق فتوق الخلافات السياسية بين جميع المكوِّنات والكيانات التي قسمت الولاءات وعصبت الأعين وضلَّلتنا في المسارات الطويلة التي لا تنتهي..
ولن تستطيع الحكومة ذلك إلا إذا جلست إلى الأرض ووضعت كل ترياق صحيح وحقنت جسد الاقتصاد المسجَّى بمصل الإنتاج والحلول الصحيحة وتقديم القدوة الاقتصادية وكبح جماح الفساد وإزالة كل القوانين والسياسات التي أعاقت الاستثمار وعطَّلت حركة الصناعة وجعلت من أرضنا الزراعيَّة بلقعاً بلا صريخ..
ولن تستطيع الحكومة أن تعيد لنا سوداننا إلا إذا توقفت الحروب وصمتت لغة الرصاص وانقطعت لعلعتُه في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وفُرِضت هيبة الدولة وبسطت سطوتها، وأمِن المواطن على نفسه وعِرضه وماله، وسار في الفلوات لا يخشى إلا الذئب على غنمه، وحسن السياسة ونجاعتها في كيفية علاج أزمة الحرب ووقف سيل الدماء..
ولن تستطيع الحكومة ذلك إلا إذا أزالت المظالم وكفكفت الدمع السخين ونشرت العدل وبسطت بردته على الجميع وأعملت العدل والإنصاف وقدَّمت القدوة والمثال..
أما إذا ظهرت الحكومة ووزراؤها في فاخر الدثور والثياب والعطور وبفاره السيارات في أبراجهم العاجية فلنقرأ على سوداننا الفاتحة.. وسيذهب الحلم جفاء!
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة