رأي ومقالات

الطيب مصطفى: أكبر ما يمكن أن يفعله البشير، أن يكفّر عن خطأ الإنقاذ القاتل من خلال إرجاع السُّودان إلى ما كان عليه من نظام حكم إقليمي

كنتُ قد كتبت بالأمس عن فقه البصيرة أم حمد الذي أديرت به بلادنا، وهي تُقدم على إنفاذ نظام الحكم الفيدرالي الكارثي المُطبَّق الآن بطريقة تلك البصيرة التي أفتت بأن أفضل طريقة لإخراج رأس الثور من الجرة، أن يُقطع رأس الثور، بدلاً من كسر الجرة !.

ذلك ما يحتدم النقاش حوله هذه الأيام، والقوم مشغولون بتعديل الدستور للسماح بتعيين الولاة بدلاً من انتخابهم، بينما كان الأولى أن تُناقش القضية الأساسية، والعلة الكُبرى المتمثلة في النظام الفيدرالي، الذي أقدم عليه أصحاب القرار في غفلةٍ من الزمان، بما مزَّق السُّودان إرباً، وقطَّعه إلى ولايات كان أهم معايير قيامها البُعد القبلي في تكرار مؤسف للمشهد المأساوي الذي نراه في المركز، حيث يبحث أصحاب القرار عن قبيلة من يشغل المنصب الوزاري بأكثر مما ينظرون في كفاءته !.

للأسف، فإننا بدلاً من أن نَكُفَّ عن تلك البدعة التي فرقتنا أيدي سبأ، ومزقتنا شر ممزق مضيناً في نهجنا المجنون الذي ردَّنا إلى انتماءاتنا القبليَّة بصورة لم يشهدها السُّودان منذ قرون، وهل أدلُّ على الرِّدَّة التي هوينا في مستنقعها الآسن، من أن يقود الإمام المهدي وهو ابن الشمال الأقصى أنصاره من غرب السُّودان في القرن التاسع عشر، وتحديداً قبل أكثر من “130” عاماً بدون أن يسأل أنصاره عن قبيلته، مكتفين بمعيارٍ جامعٍ مانعٍ، هو الدينُ الذي كانوا يتحاكمون إليه، بعيداً عن انتماءاتهم الصغيرة؟.

أما اليوم فقد حدثت الردة الكُبرى التي أسهم فيها من ابتدعوا النظام الفيدرالي بشكله الحالي، بالرُّغم من أن أهم مطلوبات ذلك النظام أن تتوافر له موارد هائلة تُغني الولاية عن طلبِ الدعمِ من المركز، وأهم من ذلك أن تتوحد البلد على هوية واحدة مشتركة، بحيث لا يؤدي التقسيم الولائي إلى رد الناس إلى انتماءات تضعف من الولاء الوطني الجامع.

الدليل على أننا لم نتعلم من درسنا الأول، ما جرى في دارفور مؤخراً، والتي اضيفت إليها ولايتان أخريتان، فهل بربكم أسهم إنشاء الولايتين الجديدتين في إخماد الصراعات القبليَّة، أم أنه زاد من تفاقمها؟، وهل ما حدث ويحدث بين الرزيقات والمعاليا مثلاً، وبين كثيرٍ من القبائل الدارفورية إلا نتاج طبيعي لذلك التقسيم الذي زاد من وتيرة الصراع، بدلاً من أن يُسهم في إطفائه؟.

النظام الفيدرالي بشكله الحالي هو الذي فاقم الحروب في السُّودان، بل هو الذي تسبب في التخلف الاقتصادي. فقد أنتج الترهل الإداري الذي أفرزه الحكم الفيدرالي انهاكاً لموازنة الدولة، ولو حسبت كلفة العربات اللاندكروزر فقط لكل الحكومات الولائية والمعتمدين الذين يبلغ عددهم في بعض الولايات أكثر من عشرين، بالإضافة إلى المجالس التشريعية، علاوةً على ما أفرزته الفيدرالية من ترهلٍ في المركز الذي بلغ عدد وزرائه ما يقرب من المائة أحياناً، فضلاً عن تبعات الحروب والتمردات من اتفاقيات زادت الطين بلة، وفاقمت من المحاصصات القبليَّة، لو حسبت كلفة ذلك كله، فإنه يكشف قدر الإهدار غير المحدود لموازنة الدولة في إقامة نظام لم يُصمم لإحداث التنمية، بقدر ما أُنشئ لإرضاء الكيانات القبلية التي تزايدت شهيتها جراء ما رأوه من نعيم يتمتع به رُصفاؤهم في ولايات ومعتمديات أُخرى!.

والله العظيم، إن أكبر خدمة يسديها الرئيس البشير للسُّودان بعد الاستجابة لمطلوبات الحوار الوطني من أجل إرساء نظام ديمقراطي يسبقه وضع انتقالي يقيم انتخابات نزيهة.. أقول إن أكبر ما يمكن أن يفعله البشير، أن يكفّر عن خطأ الإنقاذ القاتل من خلال إرجاع السُّودان إلى ما كان عليه من نظام حكم إقليمي، لا تزيد أقاليمه عن ستة، مع إرجاع نظام الحكم المحلي الذي كان سائداً قبل الإنقاذ.

أما تعيين الولاة، أو انتخابهم، فهذه ليست المشكلة الكبرى التي ينبغي أن ينشغل بها الناسُ، فإذا تراضى الناسُ في الحوار الوطني على فترة انتقالية، فلا ضرر البتة – من تعيين الولاة خلال تلك الفترة، على أن يُصار إلى التغيير الأكبر المتعلق بإعادة النظر في نظام الحكم الفيدرالي، بحيث تجري الانتخابات بعد ذلك خلال الفترة الانتقالية، والسُّودان في شكلٍ جديدٍ، غير الممزق قبلياً وجهوياً الآن.

بالرغم من إيجابيات النظام الفيدرالي، فإن التجربة العالمية أثبتت أنه يحتاج إلى مطلوبات يتعين توفيرها قبل الإقدام عليه، وربما يجدي التدرج في التطبيق، ولذلك فإن مصر مثلاً أكثر نضجاً واستعداداً للنظام الفيدرالي، ذلك أنها ذات حضارة ضاربة في أعماق التاريخ وهوية مشتركة وانتماء يجمع شعبها الذي ضعف فيه الانتماء القبلي وتعالت روح الانتماء الوطني. أما السُّودان فإنه يحتاج إلى قدر من المركزية تكف من غلواء الانتماءات الضيقة التي اشتعلت أكثر من أي وقت مضى، فهلاّ صحح الرئيس البشير خطأ الإنقاذ التأريخي، وأعاده سيرته الأولى، وعمد إلى اتخاذ سياسات مدروسة توحد الأمة وتلجم نار القبلية التي يتصاعد أُوارها بفعل النظام المتبع حالياً؟.

الطيب مصطفى- الصيحة