رأي ومقالات

سفير عربي في الخرطوم: سيجازي الله السودانيين خيراً كثيراً، لسبب بسيط ومدهش، وهو من فرط أمانتهم، سيعيدون إليه كل الثروات التي منحها لهم في باطن الأرض وظاهرها

في حديث جانبي مع أحد سفراء الدول العربية المقيمين بالخرطوم، أخفض الرجل صوته وهو يتحدث عن عيوب الشخصية السودانية، فمِلتُ عليه مبتسماً، قال لي:
(سيجازي الله السودانيين خيراً كثيراً، لسبب بسيط ومدهش، وهو أنهم من فرط أمانتهم، سيعيدون إليه كل الثروات التي منحها لهم في باطن الأرض وظاهرها، كاملة وسالمة دون أن يأخذوا منها شيئاً)!
سحبت ابتسامتي بارتباك ومرارة، وفقدت المقدرة على التعليق. لقد كان حديثه بالغ الاستفزاز ومهيناً، رغم أنه جاء محلّىً بروح الطرافة، ومغلّفاً بغطاء دبلوماسي ناعم الملمس!
-1-

الأمر لم يأخذ حقَّه من الاهتمام. ربما لم تعد لنا قابلية لاقتناص الفرص السعيدة.
هي العلة القديمة، أضاعت الأهداف السهلة، في لحظات الحاجة، وفي الزمن الحرج!
الأسوأ من ذلك، أصبحنا أميل دوماً للاحتفاء الحزائني بالمصائب، وتوفير التبريرات للهزائم.
كلنا يحمل أعذاره معه!
ندخل إلى كل مباراة في الحياة، أو تحدٍّ في السياسة والاقتصاد – وحتى في الرياضة – وأعذارنا في جيوبنا، نُخرجها عند لزوم السؤال وتبرئة ذمة الواجب.
-2-
وزير الزراعة لا يكذب، ولا يجمِّل الواقع، إنها الحقائق بالأرقام المجردة، تتحدث عن أفضل موسم زراعي في تاريخ السودان من بعانخي إلى اليوم!
50 مليون فدان ارتوت بمياه السماء.
السمسم وحده 7 ملايين فدان، والفول 5 ملايين أخرى.
أفضل الأماني وأدق التقديرات، لم تتجاوز الـ30 مليون فدان.
السمسم في العراء، وهو محصول مدلل، غالي القيمة وسريع التلف، ليس له من الصبر القليل!
الزراعة هي مواقيت البذر والحصاد، لا تنتظر مهلة الأفندية، وأحذيتهم الثقيلة، وإجراءاتهم التي تسابق السلحفاء.
بطء في القرارات، وضمور في التنفيذ، وبراعة في التبريرات!

-3-
الطبيعة فعلت ما تستطيع:
(أمطار غزيرة وآفات قليلة).

المزارعون في عموم السودان، اقتطعوا من حاجة أبنائهم لزراعة45 مليون فدان، البنك الزراعي لم يغطي سوى 5% من التكلفة.
المزارعون أنفقوا من صحتهم ووقتهم، في إسداء الشكر للسماء، بالعمل في النهار والحراسة بالليل في مسامرة البعوض.
الطوارئ ليست هي الشرور فقط؛ كذلك مِنَحُ الخير تحتاج لاستعدادات استثنائية.
لا أرى استعدادات استثنائية في مقابلة الحصاد الموسم، كل شيء على ما هو عليه.
السياسات هي السياسات، وما يُتّخذ غير قابل للتنفيذ الناجز.
منافذ الصادر أضيق من كمية الإنتاج.
لا توجد حملات إعلامية، ولا استنفارات للطلاب والقوات النظامية، لإنجاح عمليات الحصاد، كما كان يحدث في أيام مايو.
من ينقل عنا:
(القضارف اليوم لا تقلُّ أهمية عن أبو كرشولا أمس)!
-4-
الحكومة حددت 500 جنيه سعر التركيز لقنطار السمسم، لحماية وتشجيع المزارعين. الأخبار والمعلومات تتواتر من مواقع الإنتاج، عن ما هو أقل من ذلك بكثير!
بنك السودان مصاب بفوبيا الدولار، لا يستطيع التفكير خارج صندوق الأزمة.
لا يريد أن يضخَّ سيولةً في السوق، ولا أن يشجِّعَ البنوك التجارية على تمويل عمليات الحصاد وتيسير حركة الصادر.
المخاوف غير مبررة.
الأموال لن تذهب لدعم السلع، ولا لشراء الذهب، ولا لدعم موسم التسجيلات في الأندية الكبرى؛ ستمضي لجيوب المزارعين والمنتجين، وسيرتفع على أثر ذلك الناتج القومي.
-أخيراً-

من المؤسف أن الأيام والتجارب في كل يوم، تثبت أن أصحاب (الياقات البيضاء)، من صانعي القرار الاقتصادي، فاشلون في إدارة الندرة والوفرة كذلك!

ضياء الدين بلال-رئيس تحرير صحيفة السوداني

‫2 تعليقات