عثمان ميرغني

بـ الحبر السري


[JUSTIFY]
بـ الحبر السري

بعد يومين.. أي في يوم 19 ديسمبر.. سنسمع الأسطوانة المملة المكررة.. سنسمعها في الإذاعة والتلفزيون وكل وسائط الإعلام التي تعمل وفق نظرية (خادم الفكي.. مجبور على الصلاة).. سيعيدون على مسامعنا حكاية قديمة تتحدث أنه في مثل هذا اليوم من العام 1955 رفع عضو في الجمعية التأسيسية (البرلمان) يده لينال فرصة الحديث.. فكانت المفاجأة أنه طلب رحيل المستعمر البريطاني من السودان.. وثناه عضو آخر.. فأعلن الزعيم الأزهري استقلال السودان من داخل البرلمان.. وبعد أقل من أسبوعين كانت القوات البريطانية تطوي حقائبها وترحل بينما الشعب السوداني يبكي متأثراً وهو يشهد رفع العلم السوداني على سارية القصر الجمهوري بأيدي الزعيمين الأزهري والمحجوب..

هذه الحكاية الممجوجة فيها تضليل مستمر لشعب السودان.. بل عبث بالتاريخ.. لأنها تمنحنا شهادة (نضال) ليست حقيقية.. وتخفي عنا عيوبنا التي نحن في أمس الحاجة للإقرار بها حتى نتجنبها..

الحقيقة التي يجتهد المؤرخون السودانيون في حجبها.. هي أن البطل الحقيقي وراء استقلال السودان هم (شباب بريطانيا).. الذين ظلوا يتظاهرون في شوارع لندن بكل قوة يطالبون حكومتهم بالانسحاب من السودان (لأسباب اقتصادية) محضة.. تتعلق بتركة الحرب العالمية الثانية الثقيلة التي تكبل الاقتصاد البريطاني وينوء بحملها الشعب البريطاني.

حكومة بريطانيا كانت تبحث عن باب الخروج من السودان بأكثر لهفة من السودانيين أنفسهم.. وكان الساسة الكرام في السودان يدركون تلك النوايا.. فأزاحوا عن بريطانيا الحرج.. وطلبوا الاستقلال.. وكأنى بالمستعمر البريطاني لم يصدق أنه وجد الفرصة.. فبعد أقل من أسبوعين كان جنوده يلوحون بأيديهم في محطة السكة حديد بالخرطوم في طريقهم إلى بلادهم..

كانت عملية إجرائية بحتة.. تلك الجلسة التي أودع فيها البرلمان طلب رحيل الاستعمار في منضدته.. نهار 18 ديسمبر عام 1955.. ولكننا جعلنا منها إشارة (تاريخية!) خاطئة.. إشارة عكس ما قاله الشاعر الكبير: (وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا).. إشارة (تواكل) وانتظار دائم لمحاسن الصدف لتحقق لنا الأماني السندسية..

في تاريخ السودان الذي ندرسه في المدارس كثير من الخلط الذي يغيب الحقيقة لصالح هوى الأماني.. المؤرخون يعلمون ذلك جيداً.. لكنه الخوف من المواجهة و(الحق المر)..

ولكن هذا التدليس في التاريخ لا يفيدنا في شئ.. نعم لدينا كثير من المواقف التاريخية المشرفة التي يمكن أن نحتفل بها.. ولكننا نتجاوز لذات الأسباب- تلك المواقف المشرفة.. ونطمس معالمها ونستبدلها بأخريات من نسج خيالنا أو بالأحرى من خيال نسجنا.

ولأني أيضاً أدرك حجم المخاطر في إزاحة الستار عن (الحقيقة) في بعض تاريخنا المعاصر.. فإنني أضع أمامكم بعض رؤوس الأقلام..

مثلاً.. ثورة عبد القادر ودحبوبة.. هل فعلاً كانت (ثورة!)..

ومثلاً.. من هو (البطل!) الخفي الذي أقنع الخليفة عبدالله أن ينتظر.. ويسمح للجيش الغازي أن يتقدم حتى يصل إلى كرري.. ثم يمهله حتى الصباح.. لتنتهي المعركة بأبشع مجزرة بشرية في ذلك التاريخ..

تاريخنا.. لا يزال مكتوب بالحبر السري..

[/JUSTIFY]

حديث المدينة – صحيفة اليوم التالي