رأي ومقالات

عبدالباقي الظافر: النشال..!!

كنت أقف في طابور التخريج وإقدامي تهتز.. لا إدري لماذا لم أكن سعيداً مثل زملائي في كلية طب الأسنان.. بين الفنية والأخرى كنت أنقل بصري باحثاً عن أمي بتول.. الجموع المتناثرة في الميدان الشرقي تجعل المهمة صعبة.. صاحب الصوت الرخيم يهتف باسمي أيوب آدم فضل.. زغرودة من على البعد ميزتها.. أنها زغرودة أمي بتول.. الزغرودة بثت فيّ حيوية.. تقدمت نحو مدير الجامعة لاستلم شهادة التخرج.. صافحني بروفيسور عبد الملك بحرارة كأنه يعرفني.. فيما كان المذيع الداخلي يشيد بدرجاتي غير المسبوقة.

في طريق عودتي إلى صفوف المتخرجين لمحت أمي بتول.. لم أتحمل خرجت عن النص وقفزت على السور الفاصل.. كانت تبكي وهي تضمني إليها.. كانت امرأة بدينة بيضاء مثل اللبن، وكنت طويل رقيق بلون شجرة الأبنوس.. تباين الألوان وحرارة المشاعر لفتت نظر الجمهور.. أحد المصورين اقترب من الصورة المعبرة.. حاولت تقبيل أقدام أمي بتول.. منعتني وحملتني إلى أعلى.. جاء بعض زملاء الدفعة وأخذوني بالقوة من أحضان أمي.. كانوا مثل عسكر قساة يحملون معتقلاً نحو السجن.
لم تتوقف دموعي أبداً.. انتقلت إلى عالم آخر.. في ذاك اليوم كنت ابن عشر سنوات.. تركت الدراسة لأساعد أمي في بيع الطعام في المنطقة الصناعية.. كانت أمي حواء تريد أن أحميها من الذئاب البشرية.. كانت تقول لي حينما أكون معها تشعر بالأمان.. لا أذكر ملامح أبي.. هجر الأسرة، وهرب عن تحمل المسؤولية، وأنا ابن أربع سنوات.. كانت أمي حواء تسأل عنه، ثم شغلها المرض.. أصيبت أمي بالدرن.. حينما شاع الخبر في المنطقة الصناعية بدأ الزبائن ينفضون من حولها.. أخيراً لزمت الدار، وأصبحت أنا رجل البيت وعمري لم يتجاوز العاشرة.

الطبيب أخبرني أن حقن الدرن تحتاج إلى غذاء جيد.. في ذلك الوقت كنت بدأت أعمل ماسح أحذية.. عند الساعة الثالثة ظهراً توقفت في متجر صغير يبيع اللحمة والخضار.. كان عليّ أن أفاضل بين ربع كيلو لحم أو كيس من السلطة.. في هذه اللحظة جاءت سيدة جميلة وبيضاء اللون.. تخطتني وطلبت أنواعاً متعددة من اللحوم.. نحو خمسة كيلو لحمة، وأنواع مختلفة من الخضار.. دفعت الثمن دون (محاججة).. دون أن تتفحصني طلبت مني برفق مساعدتها في إيصال الأغراض إلى عربتها.
بعد أن أنجزت مهمتي رأيت السيدة تستدير إلى الناحية الأخرى.. فتحت محفظتها تبحث عن عملة معدنية تحفزني بها.. تذكرت حال أمي التي بين الموت والحياة وخطفت المحفظة.. صرخت السيدة بعد أن فاقت من الصدمة.. كنت لحظتها قد تسللت إلى شارع جانبي.. أمسكت بالمحفظة وأنا أرتجف.. فكرت أن أعود إلى السيدة، ولكن تذكرت أمي المريضة.. في ترددي مرّ بي رجل كهل.. شعر أنني النشال الذي يبحث عنه الناس في شارع المعونة.. لم يكن بحاجة إلى مجهود كبير ليقبض على نشال جديد على المهنة.

بدأ الناس يصفعوني والكهل يمسك بي مثل عصفور بين يدي صياد قاس.. حينما وصلت إلى السيدة البيضاء شعرت بالخوف.. كانت الجموع تصرخ حرامي.. حرامي، وتطلب من السيدة أخذي إلى قسم الشرطة.. أمسكت بمحفظتها ثم بدأت تبكي.. كانت كأنها تشاطرني الحرج.. أدخلتني برفق في جوف عربتها.. سألتني في حنان عن اسمي، وعنوان سكني.. طلبت منها إلا تخبر أمي.. كنت أخشى من غضب أمي.. في لحظات كسبت المرأة الغريبة ثقتي.. أخبرتها بأمي المريضة في الدروشاب.. أصرّت أن تزور أمي.. أخذت من اللحوم المتنوعة، وجعلتها في وعاء أهدته إلى أمي.. ثم بدأت تزور أمي كل يوم جمعة.

ماتت أمي حواء مساء الخميس.. تجمع أهلي في العشة الصغيرة.. انتظرت السيدة بتول القاضي جاءت في موعدها ظهر الجمعة.. قفزت إلى صدرها، وأنا أبكي.. كان أهلي يستغربون من زيارة السيدة التي يبدو عليها معالم الثراء.. حينما خرجت طلبت الحديث إلى عمي حماد فضل.. بعد حديث غير قصير ناداني عمي حماد، وأخبرني أن وصية أمي المرحومة أن أنتقل إلى الإقامة مع مع السيدة بتول القاضي في الصافية.. منذ ذلك التاريخ بتُّ واحداً من أفراد أسرة القاضي.. لا يميّزني عنهم سوى لوني الداكن

عبدالباقي الظافر-التيار

‫2 تعليقات

  1. والله دمعت عيناي, لسه الناس بخير و ربنا يوفق الدكتور
    و الناس لازم تساعد بعض بغض النظر عن اللون و الاختلافات القبيلة
    دمت يا السودان وطننا للمحبة و الاخاء