رأي ومقالات

ابراهيم عثمان : مفارقات انفصالية

[JUSTIFY]لن يقنعنا بوطنيته و غيرته على الوطن ووحدة أراضيه ذلك الذي يكفيه تعويضاً عن اقتطاع جزء من الوطن أن يتحمل خصمه مسؤولية ذلك ، و لن تهزنا كلمة من خطبه الرنانة ذلك الذي خدم و يخدم الإنفصاليين بكل ما يملك من حجة و رأي و موقف ثم ينتظر أن يستلم حصيلة ذلك ربحاً سياسياً رخيصاً باع من أجل الحصول عليه أغلى البضاعة بأبخس الأثمان ، و سيهزأ المنطق من ذلك الذي يحاول أن يجمع في جملة واحدة بين الحرص على الوحدة و بين تقديم كل مبررات نسفها ، و سيعجز عن ستر انتهازيته ذلك الذي يرضيه أن يتم التلاعب بمصير البلاد من أجل مكايدة خصمه فيصفق لكل من يحقق له المعادلة المحببة لديه : تعظيم الثمن الذي تدفعه البلاد طالما أنه لم يتم القضاء على الخصم السياسي . و سيكون متهماً في شرفه السياسي ذلك الذي لا يخشاه الإنفصاليون و لا يرون في مجمل حراكه السياسي ما يثير قلقهم ، فهو على الأقل جزء من ترسانة الدعم الإعلامي التي – رغم تباكيها على الوحدة – فإنها تصادق على كل مسوغات الإنفصاليين و تسوقها . لن يقنعنا ذلك الذي تمر على فلتره السياسي صخرة من نوع فتح المكاتب في إسرائيل و تلقي دعمها السياسي و العسكري بأن فتحات هذا الفلتر تضيق فعلاً عن تمرير مجرد فكرة الحوار لدرجة أن يصبح تقسيم الوطن هو أحد الأوراق التي يلوح بها في لعبة ابتزاز سياسي رخيص . و سيقنعنا بضعفه و هوانه المقرون بعدم وطنيته ذلك الذي لا يستطيع حتى مجرد الإنفاق على قضايا الوطن الكبرى من رصيده المتضخم في الوعود ، فلا يطالب الإنفصاليين بالتخلي عن مطلب الإنفصال انتظاراً لوعده بإسقاط النظام و إقامة دولة اليوتوبيا التي ستحقق “العدالة و المساواة و الحرية… الخ ” .

كان المتمردون يعملون في العلن من أجل الإنفصال و كانت كتائب ساسة و مثقفي و إعلاميي المعارضة الشمالية تتفنن في إثبات أنهم على حق و أن توقهم إلى الحرية و العلمانية و الديمقراطية و حقوق الإنسان و المساواة و العدالة …الخ يبرر رغبتهم في الإنفصال ، حتى لو صدقنا أن دوافع الإنفصال كانت هي المذكورة و حتى لو لم يكن الواقع في جنوب السودان الآن يكذب ذلك ، فإن الذي يؤمن بوجاهة هذه المبررات و بأنها كافية لتبرئة ساحة الإنفصاليين لا يستطيع أن يقنعنا بأن دموعه على الجنوب هي دموع حقيقية . فالذي يرى أن ذلك الحدث الجلل و المصيري يمكن أن يتم تبريره بدعاوي غياب بعض المطلوبات المختلف أصلاً على إيمان المتمردين بها و على أنها كانت هي الدافع الحقيقي للإنفصال و فوق ذلك على أنها فعلاً كانت غائبة إذا قسناها بواقع الجنوب في الفترة الإنتقالية و اليوم و بسلوك الحركة عندما كانت مشاركة في الحكم في الشمال . الذي يفعل هذا و تتقزم عنده قضية الإنفصال ليصبح تبريرها بهذه المبررات السطحية و المتحركة و التي لم يثبت أنها كانت هي الدافع الحقيقي للحركة ليس مؤهلاً ليعطي الناس دروس في الوطنية و حفظ التراب الوطني ، خاصةً إذا كانت كل خطوة خطتها الحركة نحو الإنفصال كان له سهمٌ فيها .

غضبتهم لإنفصال الجنوب حولاء و باهتة و مصنوعة . حولاء لأنها تستثني كل من أسهم بسهم حقيقي في الإنفصال بدءاً من دوائر التآمر الأمريكية مروراً بنظيرتها الإسرائيلية ( سلفاكير لبيريز : بدونكُم ما كنا نحن..قاتلتُم معنا لإنشاءِ جمهوريةِ جنوبِ السودان ) و مروراً بالحركة الإنفصالية ذاتها و ذيلها الشمالي الذي يعمل على صناعة إنفصال جديد فيما تبقى من السودان ، و انتهاءً بذاته التي ما صعد الإنفصاليون درجةً في سلم الطريق إلى الإنفصال إلا و قد اتكأوا عليها . كان الإنفصاليون يستثمرون كل مكسب حققته لهم نيفاشا لا لجعل الوحدة جاذبة و لكن لخدمة مشروع الإنفصال و كان المعارضون الذين عودونا على قصر النظر و الإنشغال بالتكتيكي الذي يغيظ الوطني عن الإستراتيجي الذي يصيب الوطن ، يطربون و يصفقون لكل خطوة تصعيدية يقوم بها الإنفصاليون و يغضون أبصارهم عن رؤية الهدف الإنفصالي الذي تهدف إليه و عزاءهم الدائم أن ذلك التصعيد يعكنن على المؤتمر الوطني ، و هي باهتة لأنها موجهة إلى الخصم السياسي الذي تنوعت مفردات الغضب عليه و تقسمت ما بين حقيقي و مصنوع و مضخم فذابت تلك الغضبة الصغيرة في بحور الغضب و لم تجد ما يميزها من حرارة العاطفة و قوة العمل منعاً للحدث أو حتى تلافياً لآثاره ، غضبةٌ باهتة مقارنةً بغضبات أخرى كانت أسبابها متعلقة بحظوظ النفس سلطةً أو مال ، غضبةٌ موظفة لأغراض أقل بكثير من محورية و جوهرية القضية .

غضبة يمكن ترجمتها مباشرة إلى استثمار سياسي صغير جداً ما دام صاحبها يعزيه أن تتحول القضية لديه إلى مجرد عريضة اتهام يكايد بها خصمه ، إن سألتهم : ماذا فعلتم من أجل نصرة الوحدة و منع الإنفصال و أنتم المؤيدون لتقرير المصير ؟ طنطنوا بأقوال متناثرة مفككة تتحدث عن تحذيرهم للنظام من عواقب نيفاشا و هم – هم بالذات – من كانوا ظهير الحركة الشعبية في تعظيم قدرتها على فرض ما يدعون أنه كان قد أثار مخاوفهم من نيفاشا . ثم تجدهم يحدثونك عن دعوتهم المستمرة للوحدة أثناء الفترة الإنتقالية ، و سجلهم في تلك الفترة يكشف بجلاء أن الإستثمار في خلافات الشريكين و محاولات صنعها و تضخيمها و إيغار صدر الحركة الشعبية كانت بالنسبة لهم خطة و منهج عمل و معقد رجاء و استثمار سياسي رخيص عائداته لا تزيد عن مجرد النكاية و تسبيب المصاعب و صناعة العثرات . و من يتحدثون عن التهميش كانوا يعلمون بأن الجنوب قد نال لأول مرة منصب النائب الأول و ثلث الوزارات تقريباً في الشمال و كل الجنوب ، جنوب بإيرادات نفطية مليارية لولا يقظة حكومة السودان و جيشها لكانت في خبر كان بفعلٍ من جيش الحركة و من تحالف معه من الشماليين الذين حاولوا بكل السبل تعويق استخراج النفط تحريضاً للدول المتجبرة و تهديداً للشركات و استهدافاً عسكرياً مباشراً. و نوايا الحركة الإنفصالية كانت معلنة منذ البداية و تظهر في الأقوال و الأفعال ، فالنائب الأول و منذ لحظة توليه لمنصبه ظل مرابطاً بالجنوب و لا يأتي الخرطوم إلا زائراً و لم تسجل له زيارة واحدة لمنطقة شمالية خارج الخرطوم و لم يكن هذا نتيجة لفقدان الأمل في الوحدة بسبب عدم تنفيذ النظام لبعض بنود الإتفاقية كما يدعي الذين يبررون مشروع الإنفصال بل كان ذلك منذ الأيام الأولى و الثابت بشهادة المراقبين الدوليين أن الحركة هي الطرف الذي لم ينفذ بعض البنود خاصة فيما يخص الترتيبات الأمنية و المفارقة أن ذات الذين كانوا يتهمون النظام بعدم الجدية في تنفيذ الإتفاقية هم من يحاولون الآن الإستفادة من واحد من أكبر خروقات الحركة المتمثل في عدم تنفيذ الترتيبات الأمنية في جنوب كردفان و النيل الأزرق ، كانوا يهاجمون وزراء الحركة الوفاقيين ( مثل لام أكول وزير الخارجية و لوال دينق وزير النفط و تابيتا بطرس وزيرة الصحة ) و يرمونهم بالتهم الجزافية من نوع أن المؤتمر الوطني قد اشتراهم و كأن الأصل و المطلوب بإلحاح من جانبهم هو أن يكون التشاكس و الصراع هو سمة المرحلة الإنتقالية . و لذلك كان صقور الحركة الشعبية من الإنفصاليين المشاكسين هم نجوم المعارضة المفضلين و الذين تؤمن على كل أقوالهم و أفعالهم و كلها كانت مجيرة لخدمة مشروع الإنفصال، إذ لم تشهد الفترة الإنتقالية أي خلاف جدي بين الحركة و المؤتمر الوطني خارج دائرة ما يخص الجنوب سواء في قسمة السلطة أو الثروة أو الترتيبات الأمنية أو الحدود أو قانون الإستفتاء و غيرها من مفردات الصراع الجنوبية بإمتياز . و تم تتويج هذا التحالف مع صقور الحركة الشعبية بميلاد تجمع جوبا الذي استفادت منه الحركة بأضعاف ما استفاده حلفاؤها الشماليين فقد أتى في الوقت الذي كانت الحركة تستعد فيه للإنفصال و تعلن ذلك ، و النكاية في النظام كانت تنسيهم أن الحركة ظلت على الدوام تستخدمهم كورقة للضغط على النظام لا أكثر ، فالحركة كانت طوال الفترة الإنتقالية تنعم بميزات المشاركة في السلطة و لا تعاني قلق الحكام من تحركات المعارضة الداخلية و لا مؤامرات و عقوبات الخارج إذ كانت تستثمر فيها و تسعى لإستلام العائدات المباشرة في شكل اقتراب أكثر من تحقيق هدف الإنفصال ، و كان ذلك متاحاً لأن تكتيكات المعارضة التي تزعج النظام في شقه الشمالي لم يكن من بينها ما يربك الحركة أو يعرقل مشروعها الإنفصالي . و كانت الحركة تنخرط في أعمال المعارضةً بالفعل تارةً و بالتأييد تارةً أخرى ، كانت في أفضل وضع يمكن أن يتمتع به حزب : تتمتع بمغانم الحكم دون أن تختبر مغارمه و تتمتع بميزات المعارضة دون أن تدفع ثمنها . كانت أدلة الإستخدام الإنتهازي لورقة المعارضة مبذولة و لا تكاد تخفى على أحد ، و لكن الحركة بذكائها و نصائح جيش المستشارين من وراء البحار كانت تعلم أنهم في قرارة أنفسهم يقبلون بدور الأداة و أن رغبتهم المحمومة في اسقاط النظام ستجعلهم يتناسون أن اسقاط النظام في الفترة الإنتقالية لم يكن هدفاً حقيقياً للإنفصاليين و أن كل أوراق الضغط التي تستخدمها الحركة كانت توظف للإقتراب من الإنفصال ، و لذلك لم تجد الحركة أي صعوبة في استخدامهم في حفلة الكيد الإنفصالية لينشغلوا بتكتيك الكيد السياسي للوطني و ليعاودوا الإستثمار بعد حدوث الإنفصال الذي قام به حليفهم الذي لم يخذلوه في معركة فيتهموا النظام بالتسبب في الإنفصال . سيسجل التاريخ أنه لم يكن هناك حكيم في المعارضة ترفع عن الصغائر و قام بفعل يخدم الوحدة جعل الحركة الإنفصالية تغضب منه أو ترى فيه خطراً على مشروعها فتساجله .و سيسجل التاريخ أن الذين كانوا يحملون النظام مسؤولية اتجاه الحركة نحو خيار الإنفصال و يتحدثون عن قرب سقوط النظام لم يكن من بينهم من يجادل الحركة بأن وحدة الوطن أكبر من أن تعرض للتهديد لمجرد عدم الرضى عن نظام يرونه ساقطاً قريباً لا محالة . كان كثيرون منهم يجادلون بأن الواقعة قد وقعت و لا سبيل لمنع الحركة من المضي في مشروع الانفصال و لذلك فقد أعفوا أنفسهم عن شرف المحاولة أو حتى شرف الغضب الحقيقي الذي يتعالى على الصغائر و يجعل داعمي الإنفصال الداخليين و الخارجيين يتحسسون منه حتى إن كانوا يعلمون بأن قدرته على الفعل محدودة . جميعهم جاملوا الحركة و سكتوا عن عملها الدؤوب للإنفصال أملاً في اسقاط النظام فانفصل الجنوب و بقي النظام فعادوا ليتهموا النظام الذي جعلوا مصيره لديهم أهم من مصير الوطن ! و الآن تتكرر ذات اللعبة مع الحركة الشعبية -قطاع الشمال التي حاربت مع الجنوب لحين انفصاله . و هو الفصيل المدعوم من إسرائيل و دولة الجنوب و هو الذي صمتت مدافعه طوال الفترة الإنتقالية رغم الخلافات و ذلك لأنه كان رهينة جوبا و مساوماتها من أجل الوصول إلى الإنفصال الأمر الذي كان يجعله يتجه بثقله السياسي من أجل خدمة الجنوب و الحصول على التنازلات هناك مقابل تنازلات للحكومة فيما يخص الشمال ، أما و قد نال ما أراد و تم فصل الجنوب فقد حانت لحظة المساومة داخل الشمال ليكون حدث صغير مثل خسارة الحلو لإنتخابات الوالي هو كرة الثلج التي ستضخمها الحركة وصولاً إلى المطالبة بالحكم الذاتي و تطوير ( جنى الإنفصال ) إلى انفصال كامل الدسم تبرع عرمان بتوسيع مظلته ليشمل مناطق أخرى ربما يجهزها لينطلق منها إذا تمكن للمرة الثانية من فصل جزء من الوطن دون أن ينفصل هو معه و حجته الجاهزة هي أنه ليس من مواطني ذلك الجزء الذي يسعى لفصله الآن كما لم يكن من مواطني الجنوب ، و هي الحجة التي لا يقبلها الآن من الذين يرون أن الأولى أن يقود وفد الحركة المفاوض أحد أبناء المنطقتين فهو على الأقل سيكون أصدق تمثيلاً للقطاع الذي تعبر عنه الحركة من مواطني المنطقتين و سيكون أداؤه في التفاوض أفضل لأنه شتان بين من يطالب بمطالب تتعلق بمصيره شخصياً وحدةً أو إنفصالاً و بين من يطالب بالحكم الذاتي و في حالة الرفض تقرير المصير و هو في شخصه ليس من المشمولين بتقرير المصير إن تحقق حلمه به .

النيلين[/JUSTIFY]