الصادق الرزيقي

كيمــيــاء الـــعـلاقـــة بــــين السُّــــودان وجنوبــــه!

[JUSTIFY]
كيمــيــاء الـــعـلاقـــة بــــين السُّــــودان وجنوبــــه!

غريبة هي كيمياء العلاقة بين السُّودان ودولة جنوب السُّودان، كلَّما تقارب الداخل الجنوبي، تباعدت عناصر اللقاء مع السُّودان، وما إن يتباعد ويحتدم صدامه.. تقاربت الأواصر والتحمت مع الخرطوم!
لكن ليس العكس بالنسبة للسودان، فالداخل السُّوداني ظل عنصرًا ذاتي التأثير، وتتوسع امتداداتُه على مدى أوسع إلى الخارج ويتداخل مع غيره ويكون له ارتداداتُه العكسية، في هذه الكيمياء فإن الداخل السُّوداني مهما تقارب أو تباعد، ليس له أي انعكاسات ذات أثر في علاقاته مع جوبا.
والسبب في ذلك أن تجربة الدولة السُّودانية أكثر نضجاً وأعمق جذراً، وتترافق مع تكوين مجتمعي مضى بعيداً نوعاً ما من الاصطفافات القبليَّة والجهويَّة والمناطقيَّة كما هو الحال في دولة جنوب السُّودان..
ومن الخطأ بمكان، اعتبار ما يجري في الداخلين الجنوب سوداني والسُّوداني، حالة طارئة أو لحظة تاريخية تمر كرهو السحاب، تمّحي آثارُها وتتلاشى بسرعة دون أن يكون رماد نيرانها بلونه وكثافته هو السمة الغالبة للمستقبل السياسي والاجتماعي في البلدَين المتعلِّقَين بحبال من الترابط العضوي لأزمتيهما معاً..
في كل الحروب التي وقعت في الجنوب منذ التمرُّد الأول في توريت «19/8/1955» وما تلاها من تمرُّدات يوم كان السُّودان بلداً واحداً، وإلى الحرب الجنوبية الجنوبية الراهنة والجنوب دولة مستقلة، لم يتردَّد أبدًا الجنوب أن يتَّجه، لجوءاً ونزوحاً إلى اتجاه الشمال، وهو لواذ تصنعُه الجغرافيا وحقائق الأشياء، يكون الاتجاه للشمال إدراكًا به كملاذ آمن يختلف عن كل الاتجاهات المتاحة لمن يلجأ ويهرب من الحريق، وأيضاً هو احتماء سياسي يأخذ معه الشعور والمزاج الجنوبي إلى الحضن الأقرب والأكثر أمناً وطمأنينة، وتلعب كيمياء المزاج والشعور الجمعي دوراً هائلاً في صناعة الإرادة العفوية التلقائية الاجتماعية والسياسية في الجنوب دولة وقيادة وشعباً وتوجه هذا الكل إلى أين يتجه..
وتختبر الأحداث الراهنة والحرب الطاحنة بين الفرقاء الجنوبيين، حقيقة هذه الكيمياء المركَّبة بين البلدين، وربما يكون التاريخ القريب والبعيد، على تلاحُم وتوافق مع هذه الحقيقة الماثلة، فصراع القبائل الجنوبية على مرّ التاريخ من قرون بعيدة، هو الأبرز في أسباب هجرتها شمالاً من عُمق مناطق الجنوب الحالية بالنسبة للقبائل النيليَّة التي تحدَّرت إمَّا من الهضبة الإثيوبية أو من منطقة البحيرات العظمى في وسط إفريقيا..
وإذا أخذنا مثالاً… فإن هجرة دينكا نقوك إلى منطقة أبيي الحالية، كان هروباً من حروب قبلية طويلة ومميتة ودامية مع قبيلة النوير امتدَّت حتى أوساط القرن التاسع عشر الميلادي، ولم يستطع دينكا توج في واراب أو ملوال في شمال بحر الغزال، احتضان هجرة دينكا نقوك وإفساح قلوبهم وأرضهم ليعيشوا معهم، فطُردوا من هناك ولم تحتضنهم جهة إلا عندما هاجروا شمالاً إلى المسيرية على ضفاف بحر العرب وعاشوا هناك، وضمَّت السلطات الاستعمارية يومئذٍ في «1905م» المشيخات التسعة لهؤلاء الفارين المنسلخين من أضرابهم وأترابهم ومنابتهم القبلية… إلى مديرية كردفان.
ويندرج تحت هذا المثال صور مختلفة للهجرات الجنوبية شمالاً في الماضي في أعالي النيل ومناطق النوير الشمالية التي تُعرف بولاية الوحدة الحالية، أو هناك في أقصى الجنوب الغربي في امتداد بحر العرب وغرب بحر الغزال عند خطوط التماس بين المجموعات السكانية في الجانبين، ثم إلحاق الجنوب بالشمال بعد مؤتمر جوبا في «1947»، الذي كان في حد ذاته نوعًا من العناصر المركَّبة أو المضافة لكيمياء العلاقة بين الجانبين، وكان الجنوب طوال التاريخ القريب، بحاجة إلى تعريف نفسه في كل مرَّة وإدراك خصائص ما يجعله قريبًا من شماله وبعيداً عنه!
استخلاصات المرائي والمشاهد والمسامع الراهنة، مقرونة مع زيارة الرئيس البشير إلى جوبا عاصمة دولة الجنوب أول من أمس، لا تذهب بعيداً عن أن هذه الكيمياء بكل عناصر مكوِّناتها تدخل مختبرًا جديدًا هو الذي يحدِّد مستقبل العلاقة بين البلدين وربما يرسم معالم الداخل الجنوبي مرة أخرى من ناحية تقارباته وتباعداته!!
[/JUSTIFY]

أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة