تحقيقات وتقارير

أَرَبُ التُّرابِي! حقَّ للجماعة المسلمة الانتباه إلى أطروحات التُّرابي “الفقهوفكريَّة” من زاوية “الصَّواب والخطأ”.. فقد ترمي بنمطها في “التَّديُّن” لخدمة مصالح ضِّيقة

[JUSTIFY](1)
حتَّى النظر العابر ليس بمقدوره أن يغفل مغزى الاستهجان الكبير الذي أبدته، وما تزال تبديه، قطاعات واسعة من الشَّارع المسلم في السُّودان لحملة “التَّكفير” التي شنَّها بعض غلاة المتعصِّبين على التُّرابي، مؤخَّراً، فاعتبروه “مارقا زنديقا”، بسبب جوانب من آرائه السِّياسيَّة، كإعلانه، مثلاً، أنه لا مانع لديه في أن تؤول رئاسة البلاد إلى مسيحي أو امرأة طالما كان من يتسنَّم المنصب عادلاً ونزيهاً. فعلى ما قد يراه الكثيرون من وجاهة في هذا الرَّأي، إلا أن جُلَّ ذلك الاستهجان لم ينطلق من موقع الانتماء إلى، أو حتَّى مجرَّد التَّعاطف مع فكر الرَّجل، بقدر ما وقع كتعبير، في المقام الأوَّل، عن رفض الجَّماعة المسلمة المبدئي لظاهرة “التكفير” في حدِّ ذاتها، والتي كان زعيم حركة الإسلام السِّياسي السُّودانيَّة ذاته قد أسهم، للمفارقة، في استشرائها، بإطلاق أعِنَّة مَن نصَّبوا أنفسهم مِن أتباعه، دون وجه حقٍّ، “حرَّاساً” للعقيدة، و”مفتشين” في الضَّمائر، حتى في مسائل السِّياسة، والاقتصاد، والاجتماع الموكولة، بطبيعتها الدُّنيويَّة، لأفهام العباد وتقديراتهم، وفق هداية دينيَّة عامَّة، لا وفق نصوص تفصيليَّة مخصوصة، لقول الرَّسول (ص): “ما أمرتكم بشئ من دينكم فخذوه، أمَّا ما كان من أمر دنياكم فأنتم أدرى به”.

تدبير أمور الدُّنيا خاضع، إذن، بموجب هذا الحديث الشريف الذي رواه مسلم وابن ماجة وابن حنبل، لمعايير “الصَّواب والخطأ”، لا “الحلال والحرام”، لولا أن المتشدِّدين شقُّوا على الناس في دينهم، وضـيَّقوا عليهـم في دنياهم!

(2)
غير أنه ما مِن شكٍّ، أيضاً، في كون بعض من هبُّوا للدِّفاع عن التُّرابي في وجه هذه الحملة قد تجاوزوا، على ما اجترحوا من مداخل صحيحة، حدود التَّعبير المبدئي عن رفض الظاهرة إلى محاولة استثمار هذه المداخل لتسويغ مجمل مواقف الرَّجل الفقهوفكريَّة، والتي تحيل إلى نمط في “التَّديُّن” مختلف عليه، رغم أنهم ليس نادراً ما ينطلقون من قاعدة صَّحيحة في التَّفريق بين “أصول الدِّين” وبين “التفقُّه في الدِّين”، باعتبار الأولى جماع مبادئ عقديَّة، وأدلة يقينيَّة، وقطعيَّات محكمات لا خلاف عليها من منظور “الحلال والحرام”، بينما الثاني كسب بشري يسعى للتَّعبير عن “الأصول” الأولى، لكنه مؤسَّس على “اجتهاد في الرأي” غير معصوم، بالغاً ما بلغ من حسن النوايا والمقاصد، فيخضع، من ثمَّ، لمعايير “الصَّواب والخطأ”.

بعـبارة أخـرى، فإن “الأصـول” تمـثِّل “الدِّين” الذي هـو كلمـة الله المطلقة، بينما “التفقُّه” يمثِّل “التَّديُّن” الذي هو بعض فهوم البشر المحدودة.

لكن هؤلاء المدافعين عن “تفقُّه التُّرابي”، خصوصاً في ما يطلق عليه “تجديد أصول الفقه” و”تجديد الفكر الإسلامي”، غالباً ما يغلقون “الصَّواب”، نهائيَّاً، على تصريفه وحده للمعاني، والأحكام، والنظم الشَّرعيَّة المركبة، كالبروفيسور شوقي بشير عبد المجيد، مثلاً، والذي يقطع بأن “تجديد التُّرابي” إنَّما هو “إحياء” لـ “أصول” موجودة، فتوضع “في البناء الاقتصادي أو السِّياسي ليُبنى عليها”، ولتدرج، على هذا النَّحو، في مدارج “التَّطوُّر”، ككسب تاريخي أعظم من مجرَّد “الإحياء”، لأن “التَّطوُّر” يكيِّف أحوال “التَّديُّن” لـ “أطوار جديدة”، بما يتأتَّى من تصريف المعاني، والأحكام، والنظم المركبة في سياق نصوص الشَّـريعة ذاتهـا، فيكـون هـذا “التَّجـديد” إظهاراً لمـا شـرَّع الله من مقاصد (السوداني؛ 29 ديسمبر 2014م).

هكذا يستدير سنخ الدِّفاع عن “تفقُّه التُّرابي” هذا ليجعل من “آرائه” البشريَّة في سياق “تديُّنه بالسِّياسة”، حسب أحد أشيع تعابيره، “قواعد” ملزمة، وواجبة الاتباع، باعتبارها “ديناً” هي نفسها!

(3)
حريٌّ، إذن، بمن يريد أن يعرض لأطروحات التُّرابي الفقهوفكريَّة على هذا الصعيد، أن يحذر الانزلاق إلى مكمن الأَرَب فيها، أي ما يخدم، باسم “الدِّين”، مصلحة ضيِّقة، تتفاوت من حال “إقبال السُّلطة” على الرَّجل، إلى حال إدبارها عنه، خصوصاً على صعيد الموقف من إشكاليَّة “الدِّين والدَّولة”، و”الدِّين والسِّياسة”، وصلاً وفصلاً، وما ينتسب إليهما، كذلك، من إشكاليَّة “الدَّولة الدِّينيَّة والدَّولة المدنيَّة”. فلا يلهينَّ زخرف القول أحداً، والأمر كذلك، عن التَّدقيق في أمور كثيرة على هذا الصَّعيد، نورد مثلين منها على درجة فائقة من الأهميَّة، وقد تمظهرا، على حال “إقبال السُّلطة”، مرَّتين: الأولى يوم التحق التُّرابي وحركته بسلطة الفرد المطلقة عبر مصالحة جعفر نميري عام 1977م؛ والثَّانية يوم صعد التُّرابي إلى سدَّة الحكم فوق دبَّابات انقلابه على الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة، في الثَّلاثين من يونيو 1989م، قبل أن يتمظهر معكوسهما، تماماً، بعد “إدبار السُّلطة” في خواتيم عقد التِّسعينات من القرن الماضي، ولا نستبعد أن يعودا للتَّمظهر، بعد حين، على الحال الأوَّل لـ “إقبال السُّلطة” التي ما تنفكُّ، الآن، تقترب من الرَّجل ويقترب منها، ربَّما بضغط من جماعته، وربَّما بضغط من التَّنظيم العالمي:

الأمر الأوَّل: نزوعه الفقهوفكري للمطابقة، حال “إقبال السُّلطة”، بين “الوحدانيَّة” كخاصيَّة إلهيَّة مقدَّسة، وبينها كصفة سياسيَّة منتحلة، فيقول: إن “الشريعة الدِّينيَّة (الواحدة) كانت هي ضمان (الوحدة) بين كلِّ (واحد) من الرَّعيَّة وبين كلِّ (واحد) من ولاة الأمر، ومذ ضيَّعوها أصبحوا عرضة للأهواء يتفرَّقون على طرق الشَّهوات .. الخ” (خواطر في الفقه السِّياسي لدولة إسلاميَّة معاصرة، عالم العلانية، الخرطوم 2000م، ص 8). ويقول في موضع آخر: “إن (الوحدة) .. تنبثق عن معاني (التَّوحيد)، إذ ما دام الرَّبُّ (واحـداً)، وما دام الشَّـرع .. (واحـداً)، فالناس على طـريق (الوحـدة) سائرون” (نفسه، ص 13).

ولأنَّ أَرَب التَّرابي يتمحور، هنا، حول استنساخ “الوحدانيَّة السِّياسيَّة” من “الوحدانيَّة الإلهيَّة”، بغية تمهيد أرضيَّة فقهوفكريَّة مناسبة لطغيان دنيوي لا يجرؤ أحد على رفضه، بل يتبارى الجَّميع في القبول به طائعين، فإنه يتغافل، تماماً، عن دلالة “الاختلاف” و”الصِّـراع” في آيتيـن كريمـتين، الأولى: “ولولا دفـع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” (251 ؛ البقـرة)، والأخـرى: “ولـولا دفـع الله الناس بعضـهم ببعـض لهُدِّمـت صوامع وبيع وصلوات” (40 ؛ الحج).

ثم يخلص التُّرابـي إلى أن الإنسـان “إذا اخـتار .. طـوعـاً أن يعـبد الله ..، يرفع على ذات الطريق إخوانه و(يتَّحدون) معه .. حتى يحقق أقداراً من العبادة” (لاحظ الإسقاط على الذَّات ـ المصدر نفسه).

الأمر الثاني: شحنُه لفظ “التَّوالي”، قسراً، بدلالة اصطلاحيَّة ليست له. من نماذج ذلك تناوله، عام 1989م، لمسألة تحقق عالميَّة الرِّسالة الخاتمة بقوله: “كانت .. متحققة عبر مراحل: من إنذار العشيرة الأقربين، إلى خطاب أم القرى وما حولها، إلى هداية دولة (التَّوالي) والمهجر في المدينة، إلى تذكير العرب كافة ومن حولهم، إلى الاندياح العالمي القديم والمتجدِّد إلى يومنا هذا” (ورقة “البعد العالمي للحركة الإسلاميَّة ـ التَّجربة السُّودانيَّة”، ضمن ندوة “الحركة الإسلاميَّة: رؤية مستقبليَّة ـ أوراق في النقد الذاتي”، تحرير وتقـديم عبد الله فهد النفيسي، مكتبة مدبولي، القاهرة 1989م، ص 77). ومن نماذج ذلك، أيضاً، إدراجه للفظ، بعد تسع سنوات، ضمن المادَّة/26 من الدُّستور “الدَّائم” لسنة 1998م، في الإشارة إلى “حريَّة التَّنظيم”، في حين أن المقصود من ورائها، وفق أوثق الفهوم، “التعاضد القسري” مع التنظيم الحاكم!

(4)
هكذا استخدم التُّرابي لفظ “الوحدة” ولفظ “التَّوالي”، بصورة تبادليَّة interchangeable. وواضح، في الحالين، أن مراده من النُّصوص التي أنتجها في هذا الإطار، خلال تلك الأيَّام التي دالت له فيها السُّلطة، كان هو شطب “الصِّراع”، نهائيَّاً، بين “الحكام” و”المحكومين”، رغم حتميَّته في مجتمع منقسم، وإلى ذلك ضمان “التَّطابق” بين الطرفين، كضرب من “الورع” المنقول، افتعالاً، من ساحة “التَّديُّن” إلى ساحة “السِّياسة”!

غير أن لفظ “التَّوالي” لم يبرح، قط، أدبيَّات التُّرابي، كي يُعمَّد، فيستقرَّ، كمصطلح متوافق عليه، لا في الأدب السِّياسي المعاصر، ولا حتَّى في أدب الحركة الإسلاميَّة الخاص، دَعْ كون السِّياق نفسه الوارد فيه اللفظ، ضمن الورقة المشار إليها، ليشدُّ الانتباه، أكثر من أيِّ شئ آخر، إلى دلالة المستويات المتعدِّدة لـ “التَّعايش المتعاضد” بين مختلف “المجموعات السُّكانيَّة”. فالتُّرابي يستدعي، على هذا الصَّعيد، نموذج “يثرب”، الدَّولة ـ المعسكر التي وُجدت داخل محيط يتهدَّدها فيه عدوٌّ مشترك، ليشدَّ بين مفرداتها، من ثمَّ، وثاق المصلحة في الدِّفاع المشترك، والتي أسس لها الرسول (ص) بنفسه، عقب الهجرة، وفق القواعد الدُّستوريَّة التي ضمَّنها “الصحيفة/دستور المدينة”، بحيث يشكل فيها المؤمنون “.. من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم .. أمة من دون الناس”، دون أن يعنى ذلك تغوُّلاً على حقوق المجموعات السُّكانيَّة الأخرى في التميُّز، أو تمتُّعها بالاستقلال نسبي، بل دون حتَّى أن يعنى ذلك مساساً بالحقِّ في هذا الاستقلال النِّسبي لمفردات هذه “الأمة” نفسها التي ميَّزتها الصحيفة “من دون الناس”، في مستوى آخر من التنظيم الاجتماعي، بأن يبقى “المهاجرون من قريش”، إضافة إلى “قبائل وبطون الأنصار المختلفة”، ومجموعات يهود يثرب، “على ربعتهم”، أي على الوضعيَّة التنظيميَّة التي كانوا عليها عند ظهور الإسلام، وذلك في ما يتصل بـ “التَّعاقل”، أي السَّداد المتبادل للدِّيَّات، و”فداء العاني”، أي الأسير، حسب الأعراف الخاصَّة بهذه “المعاقل” و”الفداءات” لدى القبائل والمجموعات السُّكانيَّة المختلفة التي شملتها “الصَّحيفة” حصراً، وبتفصيل دقيق، على ما بينها من تفاوت في تحمُّل المسئوليَّات، وأعباء القتال، والدِّفاع عن حياض “المدينة”، وما إلى ذلك (راجع: إبن هشام؛ السِّيرة، ج 1، ص 501 ـ 504، وابن كثير؛ ج 2، ص 321 وما بعدها، والمقريزى؛ إمتاع الأسماع، ص 50).

مهما يكن من أمر، فإن ما أجاز للتُّرابي استخدام لفظ “التَّوالي”، على علاته، في الورقة المشار إليها، للدلالة، كما قد رأينا، على نموذج “التَّعايش المتعاضد” بين مختلف “الكيانات السُّكانيَّة” في “دولة التَّوالي والمهجر” في “المدينة”، حسب ما أسَّست لذلك “الصَّحيفة”، لا يجيز له استخدامه للدلالة على “حريَّة التَّنظيم السِّياسي”، كما فعل، بنصِّه على “التَّوالي السِّياسي” في دستور 1998م، أي قسر الأحزاب، وحملها حملاً على التَّحالف من موقع هامشي، بطبيعة الحال، مع الحزب الحاكم.

(5)
لقد حقَّ للجَّماعة المسلمة في السُّودان أن تستهجن وترفض تكفير التُّرابي على قوله برئاسة المرأة والمسيحي، من منطلق استهجانها ورفضها لظاهرة التكفير من حيث هي. لكن حقَّ عليها، أيضاً، الانتباه، من زاوية “الصَّواب والخطأ”، لا “الحلال والحرام”، إلى أطروحات التُّرابي الفقهوفكريَّة الأخرى في الكثير من المسائل السِّياسيَّة؛ فقد ترمي بنمطها في “التَّديُّن” لخدمة مصالح ضيِّقة، بالغة الضِّيق، على حـين تبدو، في الظاهــر، كمـا لو كانت مبذولة لوجـه الله .. لا للسُّـلطة ولا للجَّـاه!

بقلم/ كمال الجزولي
صحيفة اليوم التالي
ت.أ[/JUSTIFY]