تزوير
صحف الأمس حملت خبر تأييد المحكمة العليا لعقوبة السجن بحق مزور للشهادات الجامعية.. ذكرني هذا الخبر تحقيقا صحفيا أجريته قبل سنوات حينما كنت في صحيفة (الرأي العام) عن تزوير الشهادات الجامعية.
للحصول على المعلومات اجتهدت للغاية في البحث عن (مزور شهادات) في المرة الأولى وجدت مزوراً محترفاً لكنه للأسف كان لحظتها في السجن.. ورغم أنه أبدى استعداده لتقديم خدماته من خلف القضبان إلا أنني تركته وبحثت عن آخر.. إلى أن وجدت ضالتي..
(المزوراتي) الذي عثرت عليه -ولله الحق- كان رجلاً تقياً ورعاً علامة الصلاة في جبينه.. لحية وقورة طويلة تنساب على جانبي وجهه.. تتدلى من كفه اليمنى مسبحة لا تفارقه أبداً.. كان من فرط تدينه إذا تأخرت قليلاً في الحضور إلى مكتبي.. وجدته يصلي بالناس إماماً بمنتهى الخشوع..
قلت له أريد شهادة جامعية لصديق مغترب.. سألني (صاحبك مستعجل؟؟) رددت عليه بسؤال (وما الفرق بين العادي والمستعجل؟) رد عليَّ بكل عفوية (إذا كان مستعجل بنطلع ليهو الشهادة من جامعة…) وذكر اسم الجامعة.. (أما إذا كان عندو وقت.. فكل الجامعات متاحة)..
سألته كيف أضمن دقة (التزوير)؟ فصديقي سيسافر بها للخارج فإذا اكتشفوا هناك التزوير فـ(يروح في 60 داهية).. كانت المفاجأة أنه رد بكل ثقة (أنا ما بديك شهادة مزورة.. الشهادة أصلية مائة في المائة)..
وشرح لي الطريقة.. (بعد أن تعطيني اسم صاحبك.. سنسجله في كشف القبول بالجامعة.. ثم ننجحه من أولى إلى ثانية.. ومن ثانية إلى ثالثة حتى التخرج من الكلية التي يريدها.. وبعدها نذهب ونستخرج له شهادة أصلية من مكاتب الجامعة.. كل ذلك في يوم واحد..).
بمعنى أن التزوير هو في كشوفات التسجيل للجامعة وليس في شهادات التخرج..
قلت له (على بركة الله نبدأ.. هات واحد شهادة مزورة!!).. مد لي ورقة فيها أسعار (الأتعاب) كانت المفاجأة.. كل جامعة لها سعر مختلف.. في أعلى القائمة جامعة الخرطوم بسعر أذكر أنه كان (650) جنيهاً.. ثم تنحدر القائمة حسب الجامعة.. سألته لماذا التفرقة بين الجامعات.. أليست كلها في النهاية شهادة (مضروبة!).. أجابني أن الفرق هنا ليس فرقاً في مستوى الجامعات بقدر ما هو فرق (صعوبة!!) التزوير.. الجامعة الأعلى سعراً أكثر صعوبة.. والأدنى في السعر فلأن شهادتها يمكن الحصول عليها بكل يسر وفي نفس الساعة..
المهم.. في ذلك التحقيق نشرت أسعار الجامعات.. حسب قائمة الأتعاب التي قدمها لي (المزوراتي)..
بعد نشر التحقيق.. كانت المفاجأة.. جاءني ثائراً وغاضباً رئيس مجلس إحدى الجامعات التي ورد اسمها في التحقيق.. ومعه المدير المالي للجامعة.. مد لي حزمة من المال وقال لي بكل حدة (أدينا شهادتين مزورات لجامعتنا..) قلت له (يا سعادتك.. القانون لا يحمي المغفلين.. إن استخرج شهادة مزورة لزوم تحقيق صحفي شيء.. أما أن أستخرجها بناء على طلبك.. فتستطيع أن تأخذني من يدي إلى أقرب مركز شرطة..).
ثار الرجل وخرج من مكتبي.. تاركاً المدير المالي الذي ابتسم وقال لي (عارف المزعلنا مش تزوير شهادتنا.. المزعلنا السعر..).
حديث المدينة – صحيفة اليوم التالي