منوعات

السرماطي “الأستاذ” : ترك الاغتراب وهجر قاعات المحاضرات من أجل الحفاظ على مهنة الأجداد

قادتنا أقدامنا للوقوف على تجربة فريدة في (شارع الجلود) (بسوق أم درمان العريق) عند (دكان الأستاذ) المتميز الأنيق لتصنيع وبيع الأحذية الجلدية الرجالية، وصاحبه “عبد العظيم محجوب” الذي تفرغ لها ورمى بشهاداته ليحمله حنين لمهنة آبائه، فقادته بنات أفكاره ليبدع في صناعة الجلود، ويصبح بارعاً حتى في مساعدة الكثيرين فيها ودون أي مقابل سوى كسب سمعة طيبة نسبة لجودة صناعته وذهنه الزاخر بالإبداع والإتقان.
يقول “الأستاذ” الأشهر على الإطلاق في مجال صنع الأحذية الجلدية الأصلية بسوق أم درمان، إنه دخل هذا المجال برغبة وعزيمة، تاركاً وظيفة محترمة في “المملكة العربية السعودية” في كبرى الشركات، فضلاً عن عمله كمحاضر في عدد من الجامعات السودانية بمعظم الولايات، ويبين أنه راضٍ بهذا الدكان وهذه المهنة التي ورثها من والده وأجداده، محاولاً الحفاظ على هذا الإرث الضخم، مضفياً عليها موهبته والتطور العلمي لمواكبة الموضة وآخر الصيحات في مجال الأحذية الجلدية، فالأستاذ يقوم بكل عمليات ومراحل تصنيع الحذاء بنفسه، بالإضافة إلى أنه يقوم بتدريب عدد من الدارسين في الولايات عبر بعض المنظمات.
تراث وتاريخ..
يؤكد “الأستاذ” أن الجلود استخدمت قديماً جداً في السودان وارتبطت بإنسانه تاريخياً، بالإضافة إلى أنها شائعة في تراثنا مثل (القربة) أو (السعن) التي يحفظ فيها الماء ويكون صحياً ونقياً ويصنع من جلود الماعز والضأن والأبقار، إضافة للأحذية القديمة التي كانت تسمى (القمربون) و(الشقيانة) و(الكلودو)، والناس في السابق كانت معافاة وحياتها سلسة لاستخدامها الجلود بصورة صحية، وقد أنشأنا مجموعة من العاملين والمهتمين بالجلود(جمعية أحياء التراث السوداني) لكن للأسف تلاشت، لذلك آمل أن تساعد الدولة في إحيائها من جديد.
ثقافة الجلود.. مستقبل السودان
ويحكي “الأستاذ” بحديث العالم المثقف أن الجلد ليس (حذاء) أو (حقيبة) فقط، بل أضحى يحارب مضار البلاستيك وغيرها من المواد التي تصنع وتسبب السرطانات، فأوضح أن الجلد يحارب (الموكيت) عبر أرضياته الصحية الآمنة، كذلك الأحذية البلاستيكية التي معظمها يصنع من المخلفات قد تكون سبباً رئيسياً في الإصابة بالسرطان، مبيناً أن غلاء أسعار منتجات الجلود تجعل الكثيرين يعزفون عن شرائها سوى فئة قليلة و(البلد رافعة يدها من الإنتاج)، ثم صمت وأضاف: (أتحسر وأنا أرى الثروة الجلدية تموت وثقافة الجلود ضعيفة عندنا).
دعوة أمل لتشجيع العمل
“الأستاذ” وجدناه من خلال حديثه الثر الأخاذ مهموماً بالآخرين خاصة شرائح الطلاب والخريجين الباحثين عن فرص عمل وزيادة دخلهم، ويقوم بتدريبهم في ورشته الصغيرة في مجالات المصنوعات الجلدية، مشيراً إلى أن أغلبهم استطاع زيادة دخله لما يقارب (300) جنيه يومياً، مؤكداً أن هدفه الأساسي تحسين مستواهم المعيشي، مع تقنين طموحاتهم والأخذ بها، وأنها صدقة يقدمها لوجه الله ودون أي مقابل مادي ولروح والده مؤسس هذا العمل، وعبر (المجهر) أوجه نداء لكل من يرى أن أبواب الدنيا أغلقت في وجهه: يجيني بديهو أمل بالتدريب لان الجلود مستقبل السودان كما أسلفت و(المستقبل بيكبروه أهله).
عالم الجلود والحذاء الأنيق..
يغوص بنا “الأستاذ” في عالم الأحذية حيث الأناقة والانبهار، ففي دكانه أشكال متنوعة جميلة راقية تضاهي تلك التي في أفخم بيوتات الموضة العالمية، فيذهب بحديثه مباشرة إلى المقولة الشهيرة: (قيمة المرء في حذائه)، مبيناً أنها مقوله أوروبية صادقة تلفت إلى أهمية الحذاء ليس فقط أنه غالٍ ومن مكان فخم بل تشير إلى جودة الحذاء وراحة القدم فيه، والحذاء عبارة مرآة تعكس شكل الإنسان وأيضاً ما بداخله، بجانب التعريف السائد كونه جزءاً من (النعل) يقي من شدة الرمضاء، ومقولات كثيرة جاءت في شأن وأهمية الحذاء من فلاسفة وحكماء منها (ما فائدة الدنيا إذا كان حذائك ضيقاً).
ولان الجلود وفخامتها ارتبطت كثيراً ببيوتات الموضة العالمية والمشاهير، حيث الأناقة والرقي فقال إن مستخدم الجلد في ملبسه من حذاء أو إكسسوار أو غيره إنسان واعٍ وراقٍ ومثقف صحياً يختار أشياءه المهمة من محض الطبيعة، كاشفاً أن ذلك يجعلها تقترن بالوضع الاقتصادي لأنها غالية التكاليف، مبيناً أن أسعاره حقا غالية تصل الـ(200) مليون لحذاء التمساح الذي يعيش مدى الحياة وأقلاها (150) بجودة عالية ويعيش الحذاء ثلاث سنوات متحدياً بذلك كل الصناعات غير الجلدية التي تذبل وتنتهي في شهور ويضطر المواطن لشراء أكثر من أربعة أحذية خلال العام.
كما لا يمانع “الأستاذ” من التصنيع للسيدات حسب الطلب والرغبة واللون، ولكنه يرى أن النساء تقدريهن للجلد ضعيف ويعتبرنه غالياً، فضلاً عن أنهن يحبذن (التطقيم) وتجانس الألوان، وإضافة اللون على الجلد مكلف وغالٍ جداً.
هذا بجانب تصنيعه لـ(لاناتايك والأبجورات) والهدايا الفاخرة من الجلد، فوجدنا (أنتيكا) لحذاء من جلد (التمساح) صممه في مسابقة بجامعة السودان ونال رضاء مدرب نمساوي في المجال، وأبان أنه تم عرض مبلغ (400) ألف دولار لشرائه لكنه رفض.
وهذا بالطبع كله يؤكد أهمية دعم قطاع الجلود وعدم فتح الصادر ليجد منتجو البلاد فرصة في العمل وتسويق بضاعتهم التي توفر المال وتجعل الأسعار معقولة وفي أيدي الجميع، لافتاً إلى غلاء مدخلات الإنتاج بصورة خيالية السبب الذي يجعل حذاء الجلد في بلد الجلود غالٍ.

نهلة مجذوب: صحيفة المجهر السياسي