الذكرى المنسية!
في نفس هذه الساعة التي أكتب فيها هذا العمود.. بالتحديد في مساء 25 يناير عام 1885.. وفي تفس الموقع الذي أقيم فيه حالياً كوبرى النيل الأبيض الجديد (جسر الإنقاذ).. استقل الإمام المهدي مركباً نهرياً عبر به من أم درمان إلى الخرطوم.. ليعلن (ساعة الصفر) ويطلب من قواته الانقضاض على الخرطوم واقتحام أسوارها صباح اليوم التالي (في مثل هذا اليوم.. صباح يوم 26 يناير).
عندما قررت ولاية الخرطوم (في عهد وزير الشؤون الهندسية د. شرف الدين بانقا) افتتاح كوبري النيل الأبيض الجديد.. كتبت في صحيفة (الرأي العام) أرجو السيد والي الخرطوم آنئذ- أن يطلق اسم البطل القومي (الإمام محمد أحمد المهدي) على هذا الجسر.. تيمناً بتلك الذكرى.. ولكن بدلاً من ذلك أُطلق عليه (جسر الإنقاذ) ولما سألت المسؤول عن ذلك لماذا اختاروا هذا الإسم قال لي (It is safe politically ).
لا زلت مصراً أننا في حاجة لإعادة قراءة تاريخنا.. كثير من الأحداث الصغيرة.. نفخناها وحولناها إلى لافتة عريضة.. بينما البطولات القومية الشامخة مندثرة معلبة في سجلات المتاحف الباردة..
ذكرى رفع العلم السوداني في الفاتح من يناير 1956 مناسبة (ضخمة!!) يتعطل لها دولاب العمل وتتنشر لها أقواس الفرح وأكاليل الأنوار في واجهات المقار الحكومية.. بينما ذكرى الثورة الأكبر في تاريخ العالم الإسلامي.. الثورة التي وحدت كل أبناء وبنات السودان فأنجزوا معجزة العصر بقهرهم جيوش أقوى إمبراطورية في ذلك الزمن.. ذكرى منسية.. لا يحتفل بها سوى الحفيد الإمام الصادق المهدي كأني بها مناسبة أسرية خالصة.
يجب تصحيح هذه الصورة المقلوبة.. فهي علاوة على تقزيم بطولاتنا الكبرى.. تحول التاريخ القومي السوداني إلى محميات حزبية.. الثورة المهدية محمية يختص بها حزب الأمة.. ذكرى الاستقلال ورفع العلم السوداني في القصر الجمهوري ذكرى (اتحادية) يجيرها الحزب الاتحادي (جناح الزعيم أزهري).. وذكرى استشهاد الخليفة عبدالله في (أم دبيكرات) يحتفل بها الأستاذ حسين خوجلي في برنامجه ذائع الصيت.
أقترح أن يطلق على يوم (26 يناير) (عيد النصر).. ويأخذ موضعه الرفيع في التقويم الرسمي للدولة.. لا نريد عطلة فنحن أصلاً في حالة عطلة مستمرة بمعدل عملنا المتواضع.. لكن على الأقل أن نضع لهذا اليوم مراسيمه التي تلفت النظر لبطولات أجدادنا.. مثلاً.. أن يقوم رأس الدولة في مثل ليلة هذا اليوم (ليل 25 يناير) بعبور النيل الأبيض من أم درمان إلى الخرطوم في نفس الموقع والمسار الذي عبر به الإمام المهدي.. بنفس المركب النهري البسيط الذي استخدمه الإمام المهدي.. وعدة مراسيم احتفائية أخرى.
بعض الأمم التي تعاني من شح (البطولات الوطنية) تجتهد في ابتكار وصناعة القصص التي تمجد تاريخ شعوبها بالحق وبالباطل. فلماذا ونحن نملك رصيداً تاريخياً سامقاً نتجاهله ونبخسه بمثل هذا المسلك العجيب.. ستأتي أجيالنا القادمة منزوعة الهوية والعزة والكرامة الوطنية.. أجيال تفترش جغرافيا السودان تماماً مثلما يفترش عابر السبيل مقامه المؤقت قبل مواصلة رحلته..
حديث المدينة – صحيفة اليوم التالي
[Email]hadeeth.almadina@gmail.com[/Email]