ابن اخت الراحل: يصفه البعض انه (شيوعي) وهو ليس لديه اي انتماء سياسي بل كان انتمائه الاول والاخير للغلابة
(وأنا راكب يا مراكب…لا الرياح توقف خطاي…لا الجبال تحجب رؤاي)… تذكرت هذا المقطع وانا في طريقي الى ود سلفاب حينما كنت على متن عربة (بوكس) كنت اشعر انها لاتتقدم خطوة منذ انطلاقتها، وهذا الشعور انتابني لاني كنت احمل بداخلي (الحزن النبيل) و(شوق الشوق) وانا في طريقي إلى تلك التى تتوسط قلب الجزيرة، (ودسلفاب)، تلك المدينة التى تنام وفي صدرها تعصر الالم ، لفقيد مازالت روحه ترفرف في كل (ازقتها)، اخترنا السفر لهناك من أجل ان نوثق لذكرى الراحل مصطفى سيد أحمد والتى تطل علينا اليوم بعد ان رحل في السابع عشر من شهر يناير للعام 1996، ومنذ وصولنا لداره استقبلنا اهل بيته عند (الباب) بترحيب حار وابتسامة تسبق الايادي ، وارتسمت الفرحة على وجوههم وكانهم يرددون رائعة صاحب السيرة (حلوة عينيك) التي صاغ كلماتها الدكتور بشرى الفاضل ، والتي تجسد إحدى مقاطعها ذلك المشهد والتي تقول : حلوة عينيك زي صحابي وسمحة زي ماتقول ضيوفا دقوا بابي فرحي بيهم سال ملا حتى الكبابي) وفرحهم وكرمهم الفياض الذي لم يكن مدهشا بنسبة لنا لان مافعله اهل ابوالسيد تعرفنا عليه من قبل ان تخطو أرجلنا ارض ود سلفاب وذلك من خلال اغنيات الراحل ومواقفه الانسانية .
مازال حي
وصلنا الى ود سلفاب في تمام الساعة السابعة مساء وبعد الترحيب دلفنا الى منزل الاسرة وعند دخولنا كانت روح مصطفى الطاهرة ترفرف في جميع اركان المنزل و كان حاضرا في كل (ركن) من اركان المنزل ففي احدى الغرف كانت تعلق له لوحة مكتوب عليها كلمات اغنيته (ضوء شبابيك البيوت ) واسفل اللوحة مرسومه صورته ببراعة تامة، منزل الاسرة يؤكد بساطة مصطفى التي عرف بها فهو مثل منزل ابسط من البساطة ويشبه في تفاصيله منزل (الغلابة) الذي كان لسان حالهم مصطفى سيد أحمد الذي يحكي عن مشروعه الإبداعي قائلاً: (واقعي من واقع أمتي.. وأمتي واقعها أليم ومفجع، ويبقى بالضرورة أن تلمس هذا الواقع.. تدق على أبوابه لشحذ الهمم والتحريض على التماسك.
الكلام والولادة
ويقول المقبول ابن اخت مصطفى: (مصطفى بالنسبة لي ليس خال فقط فهو يمثل لي كل شيء جميل فرغم غيابه الطال سنين وسنين ولكن يشكل حضور في دواخلي وفي كثير من الناس، وكل موقف نبيل وانساني ، والحديث عنه يحتاج الى ترتيب والكلام عن مصطفى صعب مثل (الولادة) -بمعنى يؤلم- وانا اذا تكلمت عنه سنين وسنين اشعر انني بتكلم (ساكت)، واضاف بصوت متقطع : (كل يوم اقوم بزياته في القبر وزيارتي له تكون في الساعات الاولى من الصباح مابين الساعة الحادية عشرة والواحدة صباحا والى هذه اللحظة لم ازر قبره في النهار وعن سبب تلك الزيارة الغريبة يقول المقبول : (الى هذه اللحظة لم اعرف تلك الزيارة ولكن عندما ياتي وقت النوم لا استطيع ان انام الا اذا ذهبت الى المقابر بعدها انام بأريحية)
هذا سبب موته
أما ابن اخته الثاني هواري فقال لـ(قوون) ان مصطفى رفض لي ولكل المقربين منه ان نتبرع بكلية له، وقال انه كان يؤمن بمقولة تقول: (لايمكن ان اسعد بكلية آخر واشقي المتبرع في المستقبل)… ويضيف هواري : (مصطفى كان يمدح النبي وبالرغم من هذا يصفه البعض انه (شيوعي) وهو ليس لديه اي انتماء سياسي بل كان انتمائه الاول والاخير للغلابة، واضاف أن انسانية مصطفى هي التي قتلته لان كان خير تعريف للإنسانية ومايؤكد ذلك انه كان يمتلك عربة ولكن لم تستمر معه كثير وقام ببيعها، والسبب في ذلك انه يحب الجلوس مع الناس في المواصلات العامة وهو عبارة عن زول بسيط مترع بحب الوطن لدرجة مدهشة
كل ودسلفاب مصطفى
مايلفت الانتباه في قرية ودسلفاب شيئا هاما، وهو ان كثير من الاطفال والشباب يحملون اسم مصطفى، وبمعدل كل منزلين يوجد شخص يدعى مصطفى وهذه التسميات تجعلك اذا ناديت في أحد الشوارع باسم مصطفى ياتونك اكثر من شخص لان اغلبيتهم يحملون اسم مصطفى سيد احمد، والشيء الثاني هو ان كثير ممن عاصروا مصطفى مازالوا يحملون ملامحه في وجوههم، حتى تصيبك الدهشة وانت تنظر اليهم، فكثير منهم مازال يصفف شعره بتلك الطريقة التي كانت تسمي (الخنفس ) وايضا يربون شواربهم مثله، ويرتدون نفس النظارة التي كان يرتديها مصطفى ، ويقول زميله في الدراسة بمرحلة الابتدائية عبد الصادق عبد اللـه لـ(قوون) ان مصطفى في الدراسة كان متفوقا أكاديميا، وكان رساما ماهرا ونحاتا ونجارا وفنان من طراز فريد، واضاف: (عندما توجد كل تلك المواهب في شخص فهذه العبقرية بذاتها)
مصطفى والعشق لـ(بيوت العنكبوت)
من أكثر الاشياء التي كان يعشقها مصطفى تلك الغرفة المبنية من الجالوص داخل منزله والتى اطلق عليها ابو السيد (بيت العنكبوت )، والتى كانت هي بمثابة(صالون أدبي ) وورشة، وداخل البيت العنكبوتي يوجد عنقريبين، ومنها كان بزوغ الكثير من الاغنيات التي رأى بعضها النور والبعض الاخر لايزال حبيسها، وكل شخص كان يأتي إلى (بيت العنكبوت) بانتظام كان يطلق عليه (عنكب) ، وهذا ما قاله لنا صديقه الحميم بلة الخضر والذى أضاف : مصطفى كان يعشق (بيت العنكبوت) لدرجة الجنون ولا يستطيع الجلوس في غرفة اخرى في المنزل الا بيت العنكبوت وكان لديه معها سر لا يعلمه الا اللـه ولكن بعد رحيل مصطفى أزيلت هذه الغرفة بسبب التخطيط في المنطقة وعند إزالتها أصابنا الحزن الشديد عليها والذى قارب حزننا على رحيل مصطفى، لان (بيت العنكبوت) كانت تمثل تراث لنا وبقعة من الذكريات الحميمة التى نظل نذكرها كلما اقتربنا منها.
مصطفى والمدرسة حكاية عشق
تجولنا داخل مدرسة ودسلفاب الثانوية للبنين، وبالرغم من بساطة المدرسة وافتقادها للخدمات لكن كان يزينها في الوسط مسرح في غاية الروعة سُمي بمسرح مصطفى سيد احمد، وهذا المسرح هو الذي شهد انطلاقته الاولى في عالم الغناء ، بعدها تجولنا داخل إحدى مكاتب الاساتذة وجدنا لوحة رائعة موضعة على أعلى جدار المكتب وهي لوحة (تاج محل ) وهذه اللوحة هي التي رسمتها أنامل مصطفى ويعود تاريخ تلك اللوحة الى عام 17/12/1974، وهذا ما عرفناه من التوقيع الذي وقعه في أسفل اللوحة. والجدير بالذكر ان مصطفى كان استاذا في هذه المدرسة، بعدها توجهنا الى مدرسة ودسلفاب الثانوية بنات وجدنا في مكتب المديرة صورة لمصطفى معلقة على جدار المكتب وكل هذه المشاهد تدل على مكانة مصطفى سيد احمد عند اهل السودان و عند أهالي ود سلفاب خاصة
أستاذ يعاقب بلسانه
ويقول مدني ابراهيم احد الطلاب الذين درسهم الراحل مصطفى سيد احمد بمدرسة ود سلفاب ان الراحل كان من افضل الاساتذة في المدرسة وفي كل المراحل الدراسية التي مررت بها ويعود سر ذلك التميز بما يتمتع في إدخال المعلومة للطلاب بكل سهولة وكانت تربطه علاقة جيدة مع كافة الطلاب في المدرسة وله روح طيبة مما يجعل الطلاب يرتاحون له ، اما عن شخصية الاستاذ في مصطفى يقول مدني: بالطبع كل الطلاب يعملون له ألف حساب لأن الخطأ أمام الاستاذ مصطفى قبل العقاب فهو شيء مخجل لذلك كل الطلاب دائما كانوا بيسعوا لتقديم اجمل مستوياتهم حتى يكونوا امامة متفوقين وقد كان وهو من الاساتذة الذين لا يستعملون (السوط) في العقاب ولكن عقابه يكون عبر لسانه ودائما يقدم الارشادات للطلاب ؛ واذا فضلت اتحدث عن مصطفى الاستاذ والانسان عايز لي سنين كثيرة حتى اعطيه حقه، وما يؤكد ذلك منذ رحيله قبل 19 عاما مازالت سيرته العطرة ترفرف في كل مكان وهذا يكفى.
أمنية مصطفى التي لم تتحقق
وكشف لـ (قوون) صديق مصطفى الحميم بلة الخضر عن آخر خطاباته التي بعثها له مصطفى عندما كان يتعافى في الخارج بالدوحة، والتي تمنى في ختامه امنية كانت تقول بالنص: (صديقي بلة أتمنى أن أعود للحصاحيصا والقى لي مطرة قوية تمنع البكاسي من الذهاب الى ودسلفاب، وهذا لكي امشي (كداري) الى ود سلفاب، واستمتع بزراعة القطن والعيش و(اخوض) في مياه البلد بقدماي ويلتصق طين الارض بأقدامي تلك)…وهذه كانت آخر امنية لم تتحقق تمناها مصطفى قبيل الرحيل.
مازالت على جدار (الحوائط)
حفلات الحوت..
… حضور برغم (الغياب)
يقولون ان الموت اصعب يقين يخالطه الشك وهذا بالضبط تماما ماينطبق على كثير من (الحواتة) حتى هذه اللحظة فبرغم رحيل فنان الشباب الاول محمود عبد العزيز او كما يحلو تسميته للكثيرن (الحوت) منذ رحيله لفترة عامين من الزمان مازال يشكل (حضورا) برغم (الغياب) ومازالت حوائط المدينة تحتفظ بملصقات اعلانات حفلاته الجماهيرية التي كان يتدفق عليها جمهوره مثل بحر هايج ، والغريب في الأمر ان إعلانات الحفلات الجماهيرية في حوائط العاصمة لا تستمر اكثر من يوم نسبة الى تمزيق المارة لها، ووضع المعلنين الآخرين لملصقات أخرى فوقها، ولكن حفلات (الحوت) ربما كان لها استثناء خاص وربما كانت كذلك من الذكريات التى يفضل الشعب السوداني الاحتفاظ بها، وبالطبع مثلما تشكل إعلاناته حضورا في حوائط المدينة صوته الاكثر انتشارا ويثري في كل (الكافتريات والمركبات العامة ) وأجهزة موبايل معجبيه (الحواتة) وهم مازالوا يتجرعون مرارة الرحيل ولكنهم (حافظين لودادو) بشكل مدهش والكثير منهم في حفلات راس السنة الاخيرة قاطعها جميعها وفضل ان يحتفل على طريقته الخاصة سواء كانت بشتغيل اغنياته على موبايله او غيرها من الاحتفالات التي تزكرهم محبوبهم الاول كما فعل الكثير منهم بـ(التجمع) في تقاطع المك نمر مع البلدية رافعين علم السودان في إشارة منهم للاحتفال بعيد الاستقلال وليس رأس السنة ومرددين الاغنيات الوطنية وكل تلك الصفات الجميلة والمواقف الوطنية الخالصة زرعها بداخلهم الراحل (الحوت) وكان في كثير من حفلاته الجماهيرية يحثهم على حب الوطن وحتى في اواخر حفلاته في مهرجان امدر الثقافي اوصاهم بذلك وقال ( السودان بيك وليك مهرجان وكأنهم يرددون خلفه (واللـه من يوم الرحيل لاشفتك السمحة اتلقت ولاضقنا من بعد هناء)
اعداد:يوسف دوكة- صحيفة قوون