منى سلمان

قصّر الكلام ورسّل المصاريف

فتح حضرة الباشكاتب باب مكتبه، ونادى على احد الاطفال الذين يلعبون في الساحة المطلة على حوش المصلحة الحكومية الوحيدة التي تتابع شئون المزارعين في المنطقة .. صاح علي أحدهم من فوق السور الشايك:
يا ود الحبر .. أجر نادي خالتك أم زين لـ التلفون .. قوليها مكالمة من عمك محجوب ..
اسرع الصبي يجري بفرح شديد وهو ينادي قبل ان يصل للبيت:
خالتي أم زين التلفووووون .. التلفوووووون .. التلفووووون !!
بعد اقل من دقيقة على دفعه لباب بيت خالته ودخوله جريا، خرجت أم زين وهي تلفح ثوبها وقد تجرجرت خلّالته بفعل الاستعجال، وتوجهت مسرعة نحو مكتب التفتيش وخطواتها تتأرجح بين الجري والطيران ..
القت بالتحية على الموجودين وأمسكت بالسماعة الموضوعة على سطح المكتب .. ازاحت مسيرتها المجدولة ودفعتها خلف أذنها قبل أن تقرب السماعة من أذنها بحذر وكأنها تخاف ان تلسعها .. قالت في لهفة كبحتها نظرات الفضول المطلة من اعين العاملين الذين تركوا اشغالهم وتأهبوا لمتابعة المكالمة:
ألو ..
جاءها عبر الاثير صوت زوجها محجوب المتغرب في احدى بوادي بلاد الحجاز منذ أكثر من ثلاث سنوات، قضاها بعيدا عن اسرته، سعيا وراء تحسين وضعه المادي وتأمين مستقبل ابنائه، بعد ان هجر الزراعة لقلة عائدها وكثرة شقاءها .. حياها بلهفة وشوق:
ألووو .. حباب أم زين نعلك طيبة .. الوليدات كيف ؟ ناس الحلة كيفنهم ؟ وحاة الله مشتاق ليكم شوق .. الله وحدو العالم بيهو
اجابته بتحفظ وهي ترمق من حولها بنظرة اجبرتهم على التشاغل لحين عن البحلقة في وجهها:
طيبين وساعلين منك .. تسعل منك العافية يا أخوي
تذكر شقيقاته الحنونات فسألها:
أخواتي التاية ونفيسة كيف ؟ والطيب أخوي ووليداتو و….
قاطعته قائلة:
كوووولهم طيبين .. تراهم يسمعو في كلامك !!
نعم، فقد كان – جميع – أهل الحلة يتابعون المكالمات التلفونية لابناءهم المتغربون عنها في شغف، لا يضاهيه الا شغفهم بمتابعة حلقات المسلسل الذي يعرض في تمام الساعة الثامنة مساء يوميا وتتابعه الحلة بـ صمّتا .. الرجال من تلفزيون النادي (العام) والنسوة والاطفال من التلفزيون الوحيد (الملك) في بيت كبير القوم حاج النضيف ..
فبحكم التشابك بين الموجات التي تبث عليها الاذاعة السودانية برامجها، والموجات التي يعمل عليها التلفون الوحيد في الحلة، كان القوم يتركون ما تبثه برامج ما يطلبه المستمعون من الاغاني السودانية، ويعكفون على التصنت على ما يبثه المغتربون من اشواق الهيام الوجدية، لذلك ما أن نادي المنادي من مكتب الباشكاتب على أم زين لمكالمة وليفها، حتى (تفشى الخبر وعبر المذياع عم القرى والحضر) فتركت شقيقات زوجها ما في ايديهن واستلمن الراديوهات ..
تذكرت تلك القصة الواقعية والتي حدثت فعلا، عندما طالعت على موقع النيلين الاخباري بحث يستقصي سبل الوصول الى السعادة الزوجية، ومن ضمن ذلك يلقي بالضوء على علاقة الزوجة بأهل زوجها – والأهم – علاقة الزوج بـ زوجته وطريقة تصرفه معها أمامهم، فقط وضع للبحث عنوانا جاذبا ينصح فيه الازواج بـ (لا تمدح زوجتك أمام أهلك)، ليس من باب العمل بحكمة (الحمار شكّروهو برك) التي يؤمن بها الأزواج فيمتنعون عن كيل المدح لزوجاتهم، خوفا من أن يبركن وتبرد همتهن عن خدمة الدفرة .. (تخدمي الدفرة) بكسر الدال وتسكين الفاء دعوة تطلقها الأمهات الغاضبات على بناتهن الغملاوات المتهربات من خدمة البيت ..
ما علينا، نرجع لمرجوعنا التاني وهو النصيحة التي جاد بها الموقع على الأزواج بالحرص على عدم مدح الزوجات والتعبير عن تقدرهم لهن (التقول ناقصين وصاية .. ديل موصين بلا وصا) وذلك حتى لا يوغر صدور اهل الزوج ويثير غيرتهم – خاصة الأم والأخوات – على الزوجة !!
غايتو مخير الله هسي الراجل أكان أحترم زوجتو وشكّرا قدّام الناس دي فوكها شنو ؟
لكن على كل حال فـ الأزواج الاعراب عامة والسودانيين خاصة لا يحتاجوا الى وصاية في هذا الخصوص، فـ جميعهم زوجات وأزواج يتعاملون مع بعضهم البعض في وجود الآخرين في جفوة وكأنهم الأخوة الأعداء .. حتى اذا جمعهم مجلس واحد يجلس كل واحد منهم ابعد ما يمكن عن صاحبه، وكأنهم قطبي مغنطيس متشابهين ما ان تضع احدهم بالقرب من الاخر حتى ينفر ويقفذ مبتعدا !!
مخرج:
بالعودة لـ أم زين وبعلها الممكون وجدا وتحنانا .. لم يرتدع محجوب بـ لفت النظر الذي دسّته له أم زين في ثنايا سلامها بـ (يسمعن في كلامك) لتنبهه لحالة كون أن أخواته بل وكل القرية يتنصتون على حديثه عبر الروادي، ليرعوي ويمتنع عن الاندياح ودلق الحنان، ولكن مكنته ووحشة الغربة حالت دون أن ينصاع لتنبيهها فقال في صوت منخفض:
الله يعلم مشتهيكم .. ومشتاق للعيال شوق المريض للعافية ..
تأكد لـ أم زين حالة محجوب المتأخرة فانتهرته قبل ان تضع السماعة منهية المكالمة:
العيال ما عندهم عوجة .. قصّر الكلام ورسل المصاريف !!