منى عبد الفتاح : التغيير والزمن الجميل
ما زال إنسان الوطن العربي الحديث يحتفظ بتأثيرات ما ترسّب في ذاكرته ووجدانه من أحداث الماضي. وهذا الاحتفاظ أو التشبث بسالف الأحداث بانتصاراتها المتصوّرة حقيقةً أو مبالغة، يعكس الحالة النفسية التي ترفض الحاضر وتصفه بالواقع المرّ، آسرة نفسها في الماضي ما يثبت أنّ تناقضاً قائماً في التركيبة النفسية لمواطني هذه البقعة من الكرة الأرضية ينزع بها نحو طلب الاستقرار بالتصالح مع أصول الأشياء التي تشكّل انتمائها الاجتماعي.
وعلى هذا الأساس، نجد أنفسنا في كثير من المواقف التي تتطلب التوازن نغرق في الفوضى ونرسخ في المواقف المزدوجة، وتتضخم في حياتنا اليومية الثنائيات ابتداءً من انشقاق المذاهب والطوائف والتنظيمات المنقسمة على نفسها واستنساخها كما يحدث في عالم السياسة والإعلام. ونماذج كثيرة من الحياة العامة في المؤسسات الرسمية والأكاديمية، حتى الشارع العام يشهد انشقاقاً وعدم احتمال للآخر. ولا نغفل طبعاً أنّ معظم هذه المشاحنات تبدأ بقضايا حول الشأن العام ولكن سرعان ما تتحول إلى ملاسنات شخصية تتخذ عدة استراتيجيات هجومية أو دفاعية ومن ثم تتحول إلى هجوم وهجوم مضاد بحجج وبراهين لا يملك صحتها من عدمها سوى الطرفين المعنيين أو بعض شهود على الأحداث مثار الخلاف. ليس هذا فحسب بل يذهب الأمر بعيداً حينما ينصّب البعض أنفسهم مدافعين مستميتين عن أحد الأطراف المتخاصمة ويتحول الهجوم الفردي إلى جماعات وتكتلات لتتدهور الخصومة إلى خصومة أشد ويكون بذلك من الصعب علاجها موضعاً وموضوعاً.
محبو الماضي يحاولون الاقتناع بأنّ ما ينفع الناس هو القديم وحده، ورغم رفضهم لحياة الحداثة إلّا أنّهم لا يستطيعون البقاء بعيداً عن أجهزة الاتصالات والأدوية والأغذية الحديثة. فقد ازدادت حدة التناقضات اليوم وغمرتهم لعبة الأضداد أكثر بكثير مما كانت عليه سابقاً، وانفضحت التمثيلية المكونة من مظاهر الواقع المزيف إلى المناظر غير المنسجمة ومن الخطاب المنقسم إلى الهوية المبعثرة وأساليب الحياة المرتبكة .
وبالنظر إلى شباب اليوم الطامح نحو التغيير على كل المستويات، فهم شريحة من المجتمع مجددة وفاعلة بدوافع ظرفية، لأنهم وُجدوا في زمن ترزح أحداثه تحت متغيرات معقّدة. وبالرغم من أنّ عقدي السبعينيات والثمانينيات قد شهدا صرخة أجيال اليوم الذين عانى السواد الأعظم منهم مرارات الاغتراب والتهميش، إلّا أنّ المنتمين منهم لتيارات سياسية وأيديولوجيات فكرية وغير المنتمين قد توحدوا على فكرة سواء بينهم. هذه الفكرة هي ألّا يظلوا ضحايا القوالب الجاهزة التي تتم المحاولة لصبّهم فيها، وإنما آمنوا بألّا بد من الحراك لتتمظهر أفكارهم في المشهد المجتمعي فتولد إجابات عن الأسئلة الكبرى التي طالما عزف الأوصياء على المجتمع باسم السلطة عن الإجابة عنها.
ولطالما اشتكى الشباب العربي من سلطة أبوية يفرضها المجتمع والأنظمة الحاكمة في تعسفها. وهي غير السلطة التقليدية التي عرفّها “رادكلف براون”، بأنّها القوة أو مجموعة القرارات التي يتخذها الأب أو من حلّ محله، فهي غير مرئية ومتمثلة في الأعراف والتقاليد والتخويف من الإقدام على التغيير.
وبالخوض في جدل التناقضات أصبحنا متنكرين لمنطقنا الداخلي خاصة مع استحضار منتجات الماضي لمقابلة طغيان عناصر الحداثة، ما سبّب اهتزازاً في تكوين الوعي بشكل عام على حجب رؤية توهمات وأنماط الوعي الزائف.
حين يأخذنا بريق المصطلحات التي تحكي عن التراث والمعاصرة أو الأصالة والتجديد يلزمنا إرجاع البصر كرتين حتى ندرك أن ما هي إلّا أساليب مزيفة تحاول التوفيق بين هذا الكم الهائل من المتناقضات التي استشرت على التفكير زمناً طويلاً. ومقاومة أي شكل من أشكال التفكير المستجيب للتغيير الإيجابي أو التغيير إلى الأمام لا يتم إلّا بعلاج اختلال التوازن في التفكير المتماهي مع الضغط والإكراه والذي لا يترك ثقافتنا وواقعنا تنبني على منطق داخلي للتطور الطبيعي في الوعي بالعالم والوجود. لا شيء يوقف تناقض مجتمعنا العربي إلّا إذا امتلك وعيه المستقل وغادر النقص في مركباته الذهنية وتخلّص من ازدواجيته المضطربة المؤسسة على قبول الانجذاب إلى الوراء، لا شيء غير إعلان رفض أسر الماضي من أجل التغيير.