منى عبدالفتاح : في احتياجنا لترسيخ معاني الوطنية

يبدو أنّنا أمام تحدٍ جديد لصياغة مقاربة لمفردة الوطنية، ليس أمام الجيل الحالي وحده، وهو الجيل الذي يشهد في شرخ شبابه هذا، كثيراً من الأحداث تجتاح مواقع كثيرة على مستوى الوطن العربي.
من الأهمية بمكان التفريق بين الوطن كمعنى يتماهى في سموه ورفعته وبين الدولة كجهاز سياسي وجب احترامه ما دام يحكم بالعدل، وذلك بضخ معنى الانتماء، لأنّ الانسلاخ أصبح أسهل ما يمكن أن يقوم به المرء في الظروف الحالية. وليس غريباً أن يتبادر إلى السمع أنّه عندما يجيء الحديث عن الوطنية يرافقها شعور يظهرها وكأنّها تُقتلع اقتلاعاً.
تتجسد الوطنية عندما لا يكون لزاماً التذكير بها وشرح معناها، وذلك عندما تسري في مجرى الدم. وعندما تغادر قاعات الدرس والمؤتمرات إلى فضاء الوطن الرحب فيستنشقها المتعلّم والأمّي، الصبي والشاب والكهل، الفتاة والمرأة. وأن تتحقق في أساسيات التعامل اليومي دون الحاجة إلى الدعوة لها واستدعائها من أعماق سحيقة.
يرسّخ الوعي بالوطنية أواصر السلام ويعمل على استتباب الأمن، لأنّ من يعي ويؤمن بمعانيها لا يمكن أن يفكر في تفجير مبنى أو قتل نفس أو تخريب الممتلكات العامة من الكتابة على الجدران وتشويهها إلى رمي المخلفات في الشارع العام إلى قطع الأشجار ونسف تاريخ نموها في لحظات، أو قطف زهرة وإنهاء وجودها بفركها بين الأصابع في ثوانٍ.
أصبحت مفردة الوطنية تترك غصة في الحلق لأنّ الحديث عنها في فترة فاجعة من فترات وعي المجتمع العربي الراكد بمعنى الوطن، مما يبرر في أحيان كثيرة العزوف عن الحديث عنها بل حتى تجنب ذكرها لأنّ تبعاتها وواجباتها تبدو مرهقة للبعض وتكشف تقصيرهم. ويكتفي المواطن عوضاً عن ذلك بما يظهر منها، فبدلاً من الحنان تكون شفقة، أما ما بطن منها فهو عصي عن الإفصاح به. أصبحت الوطنية هي العبارة الوحيدة التي تشكّل مفتاح العزلة الموجعة والفرادة الذاتية التي يختارها إنسان الوطن العربي وتتشكل تبعاً لها خصوصيته الممزوجة دماً وحروباً وتشردّاً.
وفي أجزاء عديدة من وطننا العربي لا تجد فاقة وعوزا وتشردا إلّا وتجد صدى يصمّ الآذان بصيحات من لا يؤدون عملاً بعيداً عن ظلال المحسوبية والغش والفساد بكل مستوياته. وتلك تربية تغرسها أنظمة الاستبداد على مدار التاريخ وهي ما تُقعد كثيراً من الدول العربية المنكوبة الآن عن أن تكون مثل بقية الأمم.
يمارس المواطن وطنيته في صمت، بيده وإن لم يستطع فبنيته، فوطنيته أحياناً حبٌّ معبرٌّ عنه بالفعل الذي يتفق معه، حبٌ لو لم يوجد لما استطاع أن يعيش فوق تراب وطنه ولا تحت سمائه. وكثيرٌ ممن يحبون أوطانهم في حياء، يمتلكون المقدرات الأدبية إلّا أنّهم لا يجهرون بأشعارهم المنظومة، كما منهم من لا يقوى على صياغة نظريات في حبّ الوطن ولكنه بدلاً عن ذلك يستيقظ باكراً ويبتسم في وجه أخيه. وفي سعيه الباكر ينصبُّ تفكيره في المعاش وتربية الأبناء وكيفية توفير وسائل النجاح والتقدم. يفعل ما بوسعه من أجل أن تتحقق الظروف الملائمة لتطورهم البدني والاجتماعي والسياسي. في كل هذا الصمت تعبيرٌ ما عن وطنية، فالمواطن الصالح لا يكفّ عن ممارسة وطنيته اليومية حتى ولو بصمتٍ ولكنه مترجمٌ في حرث وغرس المَزارع أو تحريك ماكينات المصانع أو دوام المؤسسات والمدارس والجامعات أو سهر المستشفيات. فكل من يحب عمله ويؤدي واجبه في صدق ليتحقق تلاحمه مع وطنه ويتقدّم من أجل رفعته فهذه أسمى معاني الوطنية.
الوطنية في أبهى حالات كمالها معانٍ خلّاقة وسعي لتحقيق التطور والتقدم، فلا يجدر بنا أن نراها صنو العنف وسفك الدماء تحت مسميات عديدة كما تدور الحروب الأهلية في سوريا والسودان واليمن وحروب طائفية ومذهبية كما في العراق. الوطنية محبة ورحمة وتفاعل إنساني راق، ومن يستطيع الوصول إلى هذا المستوى من التعامل الإنساني والحضاري، فهو جديرٌ بانتمائه لوطنه الذي يحبّ.