تحقيقات وتقارير

(الوطني).. هل ورّط جماعة أنصار السنّة في دائرة (ود رعية)؟

(يدونا دائرة فيها عشرين قبة؟).. هكذا صاح مستنكراً أحد منسوبي جماعة أنصار السنًة المحمدية، ذات المرجعية السلفية، معلقاً على سقوط مرشح الجماعة في دائرة (المدينة عرب ـ ودر رعية)، التي أخلاها المؤتمر الوطني للجماعة المتحالفة معه، دون أن يدع لها أي خيار آخر، وفاز فيها حفيد أحد أبرز شيوخ الطرق الصوفية بالمنطقة، مرشح الحزب الحليف الآخر الاتحادي الديمقراطي، الذي يتزعمه مساعد الرئيس د. “جلال الدقير”. وتزامنت هذه المفارقة الساخرة مع احتفال أهل منطقة أبو حمد، معقل قبيلة الرباطاب بفوز ابنهم المفصول من الحزب الحاكم، “مبارك عباس”، على مرشح المؤتمر الوطني المنتمي لقبيلة المناصير.
عاملان: (البعد القبلي، والبعد الطائفي الديني)، قد يكونان لعبا دوراً حاسماً، في ما يبدو أنها معركة مستقلة عن المعركة الانتخابية العامة، خاصة وأن النموذجين أعلاه جمعا بين حالة الدوائر التي أخلاها الوطني لحلفائه، وبين إسقاط المستقلين المنتمين للوطني للمرشح الرسمي للحزب. هذا بخلاف ظاهرة استغلال بعض أحزاب الحكومة لخلو بعض الدوائر من مرشحي الحزب الحاكم، واغتنام الفرصة للانقضاض على مرشحي المحظي بـ(مكرمة) إخلاء الوطني الدائرة لصالحه.
{ أنصار السنّة.. اللعب في أرض الخصم
لم تكن مصادفة أن الحزب الاتحادي اختار دائرة (ود رعية) لختام حملته الانتخابية على أرضها، وبالتحديد في واحد من معاقل الطرق الصوفية، في جنوب غرب الجزيرة (قرية الشيخ عوض الجيد تور عفينا)، وليس عبثاً أن أول ما زاره د. “الدقير” هو مسيد وضريح الشيخ عوض الجيد، فقد بدا واضحاً أن الاتحادي تنبه للمفارقة الكبيرة في إنزال مرشح سلفي في دائرة لا تخلو أية قرية فيها من (قبة) أو (ضريح) لأحد شيوخ الصوفية، فأنزل الاتحادي حفيد الشيخ “عوض الجيد” “طارق محمد الشيخ” في الدائرة معتمداً على حالة العداء التاريخي بين الصوفية وأنصار السنّة، الذي يتفوق على وعود الوطني- التي أوفى بها- بتوجيه قواعده للتصويت لمرشح أنصار السنّة، ويتجلى في أن المرشح السلفي هو في ذات الوقت ابن أخت المرشح الاتحادي. لهذا يتجلى المأزق الذي دخلت فيه الجماعة السلفية بقبولها خوض غمار المعركة في ميدان تفتقد فيه لأهم العوامل (عامل الجمهور)، بل هو ميدان لـ(الخصم) يضج بالعداء والرفض للجماعة وأفكارها، لذلك تغلب الاتحادي متكئاً على استغلال البعد المذهبي والطائفي على وعود وإمكانات وجماهير الوطني الموجهة بالتصويت للمرشح الحليف.
{ الوطني يورّط الجماعة
(إن كان هناك تقدير خاطئ، فهو من المؤتمر الوطني لأنه من اختار لنا هذه الدائرة، ولم نخترها نحن).. هكذا علق المسؤول السياسي لجماعة أنصار السنّة والوزير السابق “محمد أبو زيد”، مشيراً في تصريح لـ(المجهر)، إلى أن الوطني في تفاوضه الأولي مع الجماعة تنازل لها عن دائرتين هما دائرة (غبيش) التي فاز فيها مرشح الجماعة بالتزكية، بجانب دائرة (ود رعية)، واستدرك “أبو زيد” قائلاً: (وهذه الدائرة مركز ثقل للتصوف، لكن رغم هذا نحن قبلنا التحدي)، مؤكداً أن الوطني فرض على الجماعة هذه الدائرة، بقوله: (دي الدوائر العندنا)، وبرر لقبولها بأنهم إن لم يقبلوا بها فسيخرجون من السباق الانتخابي، وحتى لا يُفهم أن الجماعة ضد الانتخابات. وأكد “أبو زيد” أن المؤتمر الوطني أوفى بالتزامه بتوجيه قواعده بالتصويت لمرشح أنصار السنّة، ما جعل الفارق بينه وبين المرشح الفائز (292) صوتاً، لكنه رجح أن الوطني ربما يواجه مشاكل وسط قواعده في الجزيرة، الأمر الذي لم يجعل مساندتهم كافية لإهداء الدائرة للجماعة. وتعليقاً على التعصب المذهبي الذي جعل مرشح جماعته يخسر السباق الانتخابي، أبدى “أبو زيد” أسفه لحالة الجفاء من جماهير المنطقة تجاه الجماعة، مشيراً إلى أن مناصري المرشح الفائز احتفلوا بنوع من (العدوانية)، لافتاً إلى أن الجماعة راعت خصوصية الدائرة، ولم تنظم حملة انتخابية على مستوى قيادات المركز، وأنها من بعد بادرت بتهنئة المرشح الفائز. وقال: (لكنهم قابلونا بفتور شديد رغم أن مرشحنا هو ابن أخت المرشح الفائز). وأضاف: (هذا أمر سيئ.. فنحن نمد لهم أيدينا لتجاوز العداء التاريخي المبني على جهالات من الطرفين). وزاد: (لكن الآن هناك حالة وعي بأن الذي يجمعنا أكبر من الذي يفرقنا).
{ فاز البرنامج أم القبيلة؟
غالب وسائل التواصل الاجتماعي التي نقلت أو احتفت بفوز المرشح المستقل في دائرة أبو حمد “مبارك عباس” المنتمي لقبيلة (الرباطاب) القبيلة الأكبر، وصاحبة الثقل في الدائرة، كانت تصف الأمر بأنه (انتصار للرباطاب) على مرشح الحزب الحاكم، خاصة وأن “عباس” لم يخرج من الوطني مغاضباً لأجل اختلاف سياسي أو رغبة في الإصلاح، إنما خلاف حول عدم اعتماد الوطني له مرشحاً في الدائرة، على خلفية ما راج عن إخلال الوطني باتفاق مسبق بتخصيص كل دورة في الدائرة لإحدى القبيلتين (المناصير والرباطاب)، حيث نال الدورة السابقة “محمد أحمد البرجوب”، المنتمي للمناصير، فكان مُنتظراً أن ينال الرباطاب الدورة الحالية.. فأصبح الأمر وكأنه تحدٍ للقبيلة، وبدا تأكيداً لغياب البعد البرامجي الحزبي في حسم نتائج الانتخابات في السودان وغالب دول العالم الثالث، وهو ما أكده المحلل السياسي والأستاذ الجامعي دكتور “حمد عمر الحاوي” لـ(المجهر) بأن عوامل الفوز والتكتلات في الانتخابات السودانية لا تنبني على أسس برامجية ولا حزبية، وأن العامل القبلي أكبر تأثيراً قائلاً: (هذه النموذج في أبو حمد، يؤكد أن روح القبلية والجهوية كانت طاغية على حساب البرامج خاصةً وأن المرشحين الاثنين خلفيتهما تعود للمؤتمر الوطني). وعدّ (الحاوي) الأمر لا يخلو من سوء قراءة وتقدير في اختيار المرشحين، وعدم مراعاة لخيارات قواعد الحزب، ما جعل الكليات الشورية ترفع أسماء غير مرغوب فيها من الجماهير.
وفي ما يلي العامل المذهبي العقدي لفت “حاوي” إلى أن الإسلام الصوفي هو الغالب في مواجهة الفكر السلفي الذي تمثله أنصار السنّة، مشيراً إلى وجود عداء سافر بين الجانبين، ما يجعل من الاستحالة تصويت الصوفي لأنصار السنّة، والعكس صحيح، وقال: (هذا أيضاً يؤكد القراءة الخاطئة من الوطني لاختيار مرشح سلفي لهذه الدائرة، ويؤكد ضعف الحس القومي العام أمام الولاءات الأخرى).

المجهر السياسي