المعاقون ذهنياً.. ظلم الدولة وذوي القربى
شريحة ضعيفة لا تعي ما يدور حولها ولا تستطيع حماية نفسها، وقع عليها ظلم المجتمع وتخوف الأهل والتكتم على الإصابة وأحياناً نكرانها، هم المعاقون ذهنيًا، ظلمتهم الدولة وتعدى عليهم الأقربون اغتصاباً لحقوقهم وإنسانيتهم، ورمت بهم الاقدار في غياهب الجهل والتخلف المتعمد بعدم التعليم والتأهيل بالرغم من كونهم مواطنين لهم حقوقهم التي كفلها لهم الدستور والمواثيق الدولية والتي صادقت عليها الحكومة ولكن لم تقم بالواجبات المنصوص عليها رغم أن المادة 45/ 1 من الدستور تلزم الدولة بالتكفل لذوي الحاجات الخاصة بكل الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور وبخاصة احترام كرامتهم الإنسانية وإتاحة التعليم والعمل المناسبين لهم وكفالة مشاركتهم الكاملة في المجتمع.
وإذا بحثنا عن أسباب الإعاقة الذهنية فقد ثبت علمياً أن الملح الخالي من اليود هو المسبب الأول في العالم لإصابة الأطفال بالتخلف العقلي وضعف النمو الذهني والتحصيل الدراسي طبقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية، إضافة لزيادة معدل الاضطرابات الناتج عن تناول الملح العادي.
تصريح بالغ الأهمية أدلت به ممثلة الاتحاد القومي للإعاقة الذهنية د. سلمى الطيب طه بوجود علاقة ورابط كبير بين نقص اليود والإصابة بالإعاقة الذهنية، وقالت في تصريح لـ(الصيحة): ” إن نقص اليود من أهم مسببات الإعاقة الذهنية ومعدل الاضطرابات الناتجة عند نقصه كبيرة جداً, وإن الملح العادي الذي نستخدمه ضار وضرره أكبر على الحوامل ويمكن أن يمنع الإنجاب أو يؤدي الى موت الجنين أو ولادته ناقص الوزن ومصاباً بإعاقة ذهنية، ونسبة الذكاء عنده أقل من الطفل الذي يتناول اليود في طعامه، إضافة لعدم التركيز والصمم، والخرس، وتضخم الغدة الدرقية، والخمول، والوهن، والدخول في الغيبوبة والموت عند نقصانه الشديد في الجسم، ويمكن تفادي كل ذلك باستعمال اليود في الملح، وقالت إن ولايات دارفور الأكثر إصابة بنقص اليود بنسبة 87% في العام 2006م، وذلك لاعتمادهم على الدخن في غذائهم الرئيسي والذي يزيح اليود من الجسم، ونسبة نقص اليود في مدينة كوستي 78% لتناولهم سمك الأنهار الخالي من عنصر اليود، ودعت إلى ضرورة إنشاء مصانع حكومية وتشجيع القطاع الخاص لإنتاج الملح المضاف إليه اليود في بورتسودان إسوة بمصنع الرشيد الذي ينتج ملح ميودن، ولنا تجربة في توفيره في ولاية النيل الأبيض عن طريق التمويل الأصغر، وقطعت بعدم وجود نسبة محددة لمصابي الإعاقة الذهنية في السودان، كما لفتت إلى أن الأطفال المصابين بالإعاقة الذهنية هم الأكثر تعرضاً للاغتصاب من بقية الأطفال وخاصة من الأقارب والمحيطين بالأسرة.
غدة متضخمة
جمعية حماية المستهلك نظمت في الأسابيع الماضية ملتقى عن التغذية والإعاقة، كشف فيه رئيس وحدة مكافحة المغذيات الدقيقة بوزارة الصحة الاتحادية دكتور عبد العزيز عبد الله حمزة عن الآثار الصحية الناتجة عن نقص اليود في الجسم وقال: ” يؤدي نقصان اليود إلى إجهاض الحوامل وولادة أطفال ميتين وموت الأطفال حديثي الولادة بجانب نقص وانعدام حاسة السمع وعيوب في الكلام، وأكد أن نقص اليود يؤدي إلى التخلف العقلي وتلف الدماغ مع قلة نسبة الذكاء عند الأطفال والتقزم وقصر القامة مع تضخم الغدة الدرقية، وأن بعض الأطفال يولدون من أمهات يعانين من نقص اليود من تخلف عقلي وجسدي شديدين يظهر في الغدة الدرقية المضخمة إضافة للصمم وعيوب الكلام، مؤكدًا أن نسبة المصابين بنقص اليود في السودان تقدر بنسبة 22% من السكان بحسب نتائج المسح الشامل لتحديد مستويات أمراض نقص اليود الذي أجري في العام 1997م، وقال إن حوالي 242.400 طفل يولدون كل عام وهم مصابون بالاضطرابات الناتجة عن نقص اليود، وأن 7000 طفل قد يصبحون مختلين عقلياً، و24 ألفاً يعانون من تخلف عقلي حاد، و210 ألف من المواليد الجدد سيكبرون وهم يعانون من خلل ذهني معتدل، وقال إن اثنين من بين كل عشرة أطفال ممن هم في سن المدرسة يعانيان من اضطرابات نقص اليود، مشيراً إلى أن أعراض المرض لا تظهر كتضخم الغدة الدرقية على معظمهم داعيًا لتأكيد الدعم والالتزام السياسي تجاه استراتيجية تدعيم الغذاء بالمغذيات الدقيقة مع التركيز على تعميم يودنة الملح وإصدار التشريعات اللازمة لمنع إنتاج وتسويق وتخزين الملح غير الميودن في السودان مع ضرورة توفره في المناطق السكنية بشكل كافٍ ورفع الوعي والمعرفة للأسر بأهمية استخدام الملح الميودن.
نشر ثقافة الوقاية
ولكن هنالك نقطة مهمة في موضوع الإعاقة الذهنية وهو أن نقص اليود ليس السبب الوحيد للإصابة بالإعاقة الذهنية، حيث تقول مديرة مركز أمنية للتدريب وتنمية المهارات النفسية د. ابتسام محمود في تصريح لـ(الصيحة ) إن أسباب الإعاقة الذهنية تتعدد فهي قد تكون وراثية وجينية أو ناتجة عن حادث أو مرض، أو نتيجة لمشاكل في الحمل والولادة مثل نقص الأكسجين أثناء الولادة، كما أن مرض الأم أثناء الحمل خاصة في الشهور الأولى وسوء التغذية للأم والطفل بعد وقبل الولادة” ، وتضيف قائلة: ” تتمثل الوقاية من الإعاقة الذهنية بنشر ثقافة الوقاية وتوعية المجتمع وتفعيل وسائل الإعلام المختلفة للتوعية ومتابعة الحمل والتغذية الجيدة كما يجب تتبع الطفل منذ الولادة، وعدم تشجيع زواج الأقارب إذا كانت هنالك حالات للإعاقة الذهنية في الأسرة “.
وتابعت د. ابتسام: ” يحتاج ذوو الإعاقة إلى الخدمات والكشف والتدخل المبكر والتشخيص والإرشاد الأسري المبكر، كما يحتاج المعاقون ذهنيًا إلى خدمات الأكاديمية والتعليمية وخدمات التأهيل المجتمعي، كما يحتاج إلى الوعي والمناصرة ومحاولة تطبيق التشريعات والحقوق لذوي الإعاقة وتدريب العاملين في مجال التدريب، وخلق علاقات وتشبيك مع جهات الاختصاص سواء كانت حكومية أو طوعية “، وتستطرد قائلة: ” في الواقع يوجد ضعف في خدمات ذوي الإعاقة إذ لا يوجد إحصاء، والجهود الحكومية ضعيفة للغاية ولا تتجاوز نسبة مشاركتهم 10%، بينما العمل كله جهد شعبي بنسبة 90% “، مضيفة أن مراكز التأهيل الموجودة بنيت بالجهد الشعبي والخاص، لكن الإمكانيات غير متوفرة، والخدمة غير متكاملة داخل هذه المراكز، وبينت أن التشريعات قوية ودللت على ذلك بأن السودان صادق على الاتفاقيات الدولية جميعها، ولكن التوعية والمناصرة ضعيفة، وهنالك الكثير من المؤسسات والقائمين على أمرها لا يوجد بها متخصصون، فمثلاً قسم التربية الخاصة بالوزارات لفترة طويلة من الزمن لم يكن بها مختصون، وعندما ذهبت إلى أحد المسؤولين بوزارة التربية بخصوص الأطفال ذوي الإعاقة الذهنية لتطبيق أحد البرامج قال لي: ” هو أنحنا الطلاب العاديين قادرين عليهم لمن نقدر لى ديل؟ “.
وقالت د. إبتسام: ” نريد إسماع صوت فئة مهمة من المجتمع فهي من حقها أن تعيش، ولتعريف المؤسسات بأهمية دورهم، لأن هؤلاء المعاقين أصحاب حقوق، وكنسبة عالمية فإن 15% من أي مجتمع هم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأعلى نسبة هي الإعاقة الذهنية. وعن واقع الولايات، قالت د. إبتسام إنه بائس بالنسبة للعاصمة التي تتركز فيها الخدمات الضرورية للمعاقين، ويوجد بها أكثر من 90 مركزاً لذوي الإعاقة الذهنية، وأوصت بضرورة عمل إحصاء للمعاقين ذهنياً وفتح مراكز التدخل المبكر، وتفعيل سياسات الدمج، وتوفير مراكز التأهيل المهني وتعيين وتوظيف المعاقين.
الأسر جزء من المشكلة
ذهبت إلى أحد المراكز المتخصصة في مجال تأهيل المعاقين ذهنياً وتحدثت مع عدد من المعلمات بالمركز وهن خريجات كليات علم النفس فاتفقن على وجود عقبة كبيرة تواجه المعاقين، ألا وهي ذوو المعاقين أنفسهم فكثير من الآباء والأمهات لا يعترفون بإصابة أطفالهم ويقولون إن أبناءنا بخير ولا يعانون من أي إصابة مما يؤدي إلى عدم استفادة الأطفال من التعليم والتدريب في هذه المراكز المتخصصة وحجزهم في المنازل لفترات طويلة، مما يفقدهم فرصة الدراسة والتعلم والدمج في رياض الأطفال والمدارس.
وقالت الأستاذة بهجة سيف الدين بوجود فرق بين التعليم والتدريب، فهناك من هو قابل للتعلم والتدرج في المنهج حتى مرحلة الدمج في المدارس، وفي المقابل هنالك من لا يستطيع التعلم ولكنه يبدع في مجال التدريب والأعمال اليدوية والحرفية، وقالت: لدينا في المركز معاق ذهنياً ويدرس حالياً منهج الصف الرابع ونسعى إلى دمجه في المدرسة حتى امتحان الأساس نسبة لاستيعابه الكبير للدروس وتفوقه، وهنالك معاقون لهم مواهب رسم وتلوين وتصميم، وعن الرسوم الدراسية في المراكز بصفة عامة ومدى مقدرة الأسر على دفعها لضمان تلقي المعاق للتعليم والتدريس وعدم انقطاعه عنها وزادت:” الرسوم الدراسية في المراكز التأهيلية عالية للغاية إذ تتراوح ما بين 1000 جنيه إلى 1500 جنيه، ولكن في مركزنا فإن الرسوم الشهرية كانت 300 وقريباً أصبحت 500 جنيه مما يشكل تحدياً كبيراً لأسر المعاقين والخطورة تكمن في نسيان المعاق للدروس والتدريبات إذا ما إنقطع لفترة طويلة عن مناهج التعليم والتدريس.
مدارس مجففة
طرقت أبواب وزارة التنمية الاجتماعية ولاية الخرطوم وقصدت مجلس الأشخاص ذوي الإعاقة للتفاكر مع الأمين العام عقيد معاش بدر الدين أحمد عن التحديات التي تحد من إعادة دمج ذوي الإعاقة الذهنية في المجتمع وأين موقعهم حالياً في خطط وإستراتيجيات الدولة فقال: ” يواجه الأشخاص ذوو الإعاقة الذهنية العديد من التحديات وقد صادق السودان على اتفاقية حقوق المعاقين، واحدة من الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقية هي إنشاء أجسام حكومية تكون مسؤولة عن التخطيط ومراقبة التنفيذ في كل المستويات، وقد تأسس المجلس ولاية الخرطوم في العام 2012م، والهدف الأساسي من إنشائه هو التنسيق بين كل الجهات ذات الصلة سواء كانت حكومية أو شعبية في كل مجالات الإعاقة، فمثلاً نجلس مع وزارة الصحة أو التعليم لمعرفة أين يقع المعاقون من ميزانيات هذه الوزارات الخدمية المهمة سواء كان في الاكتشاف المبكر أو الوقاية أو التأهيل وإعادة التأهيل، كذلك بالنسبة للتعليم في مرحلة الأساس لابد أن يكون إلزامياً وإجبارياً وحقاً يقدم لذوي الإعاقة، وقبل إنشاء المجلس لم تكن هنالك جهة أو مؤسسة حكومية تعنى بهؤلاء المعاقين وتقدم لهم الخدمات الضرورية مثل التعليم، وكانت كل احتياجات المعاقين من تعليم وإعادة تأهيل وعناية تقوم بها المؤسسات الخاصة بنسبة 100%، وخاصة من أسر وأقارب المعاقين الذين يقومون بإنشاء مراكز تأهيل وعناية بأبنائهم المعاقين ذهنياً على الرغم من التكاليف الباهظة والمكلفة والصرف العالي والذي قد يفوق مقدراتهم المحدودة، ونحن قمنا بإنشاء (7) مراكز حكومية في جميع المحليات بالولاية بعد صدور قرار من الوالي أن تنشئ كل محلية مدرسة خاصة بالمعاقين وقد استفدنا من المدارس المجففة، ولكن التنفيذ الكامل وبدء الدراسة الفعلي تم في محليتين فقط هما محلية بحري مدرسة الصبابي، ومحلية أم بدة مدرسة الراشدين، وحالياً العمل جارٍ في محلية شرق النيل لتأسيس مدرسة للمعاقين ذهنياً، ونحن في الأساس نعمل على إدماج المعاقين في المدارس العادية بعد تأهيلهم وخاصة ذوي الإعاقات البسيطة والمتوسطة، بحيث إذا أصبحت قدراته مواكبة يمكن إدماجه في المدارس العادية، أما ذوو الإعاقة عالية التأثير والمعقدة والمزدوجة فإن إعادة تأهيله وإدماجه أكثر صعوبة وتعقيداً ويحتاج إلى تدريبات وقدرات كبيرة من المعلمين وذوي الاختصاص حتى يستطيع على الأقل الاعتماد على نفسه وتخفيف الضغط على أسرته، وحقيقة المنهج والشخص المعالج هما تحديان يواجهان برامج ذوي الإعاقة الذهنية بالرغم من وجود كليات متخصصة في عدد من الجامعات مثل الخرطوم وأم درمان الإسلامية حيث يتم تخريج معلمي تربية خاصة ولكنهم يحتاجون للتدريب وزيادة التأهيل”. وبالنسبة لعدد المعاقين في المجتمع قال بدر الدين: بحسب تعداد العام 2008م فإن عدد المعاقين ذهنياً 26% من جملة المعاقين في ولاية الخرطوم”. ولكنه استدرك قائلاً: ” إن النسبة ليست حقيقية لأن المسح للمعاقين ذهنياً شمل ذوي صعوبات التعلم ومرضى التوحد وغيرهم، وذلك لأن كل نوع من هذه الأنواع يصنف لوحده للاختلافات الجوهرية بينهم”. وعن تعليم الكبار قال: يتم تعليم البالغين والكبار من ذوي الإعاقة الذهنية بحسب منهج محو الأمية وهنالك جهات مثل اتحاد الشباب لديهم تجارب في هذا الأمر”. وعن الميزانية الموضوعة لتعليم وتأهيل ذوي الإعاقة الذهنية قال بدر الدين: ” الميزانية واحدة من التحديات التي تواجهنا لأن كل جهة تتحجج بأن ميزانيتها لا تسمح بالصرف على برامج تأهيل هؤلاء المعاقين فمثلاً، وزارة التعليم تقول لنا عندما نذهب إليهم: هي الميزانية كلها قدر شنو؟ وأنا أطالب كل جهة أن تتبنى الموازنات والخطط التي تليها والخاصة بالإعاقة حسب تخصصه.
من المحرر
القاسم المشترك بين جميع آراء المختصين الذين قمت باستطلاعهم عن قضية المعاقين ذهنياً أكدت على الضعف الكبير للجانب الحكومي في مقابل جهود محدودة لعدد من المراكز والمعاهد تمركزت في العاصمة دون بقية الولايات، كما لاحظت غياب منهج واضح ومحدد لتعليم وتدريب هؤلاء المعاقين، فكل مركز لديه منهج لأحد النظريات النفسية يقوم بتطبيقها بينما في المدرستين الحكومتين اللتين أقيمتا حديثاً يتم تدريس المناهج الحكومية لمدارس الأساس للأطفال وللكبار مناهج محو الأمية، ومعدلات دمج الأطفال المعاقين في المدارس الحكومية الى الآن ضعيف أو معدوم فمتى ينصلح الحال وتتلقى هذه الشريحة المهمة جميع حقوقها في التعليم والتوظيف والحياة الكريمة واللائقة ؟ وما هي الخطط المطلوب تنفيذها لإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع حتى يصبحوا إضافة إيجابية لهم إسهاماتهم وتميزهم، خاصة أنهم يتميزون بحب العمل وحب الخير والآخرين ولا يحملون ضغائن أو عداوات ويعيشون في سلام نفسي كبير يفتقده الأسوياء أحياناً. وأخيرًا لا بد من تضافر جهود الجهات ذات الصلة لإصدار تشريع يمنع تناول الملح خالي اليود.
الصيحة