حسين خوجلي

أسمار الجمعة


** من فوائد الأنس والحديث ما وصفه أبو زيد بأنه: رسالة لطيفة الحجم في المنظر، شريفة الفوائد في المخبر، تجمع أصناف ما يُقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها، فلا يميل صاحبها إلى البخل بها على غيره.
٭ ورُوي أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزُّهر، على التلال العفر. وأحسن من هذا ما قاله عمر بن عبد العزيز: والله إني لأشتري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين. فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحرّيك وشدة تحفّظك وتنزّهك؟ فقال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانيرك إن في المحادثة تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب.
٭ وسُمِع أبو سعيد السيرافي يقول: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأنشدنا قوله:
ولقد سئمت مآربي فكأن أطيبها خبيث
إلا الحـديث فإنه مثل اسمه أبداً حديث
٭ وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفارِه، وتبطنّا الحسناء، ولبسنا الليّن، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجّه السمع، ويطرب إليه القلب.
** قيل لصوفيٍ: ما حد الشبع؟ فقال: ما نشّط على أداء الفرائض، وثبط عن إقامة النوافل. وقيل لمتكلم: ما حد الشبع؟ فقال: حده أن يجلب النوم، ويضجر القوم، ويبعث على اللوم. وقيل لطفيلي: ما حد الشبع؟ قال: أن يؤكل على أنه آخر الزاد، ويؤتى على الجل والدق. وقيل لأعرابي: ما حد الشبع؟ قال: أما عندكم يا حاضرة فلا أدري؛ وأما عندنا في البادية فما وجدت العين، وامتدت إليه اليد، ودار عليه الضرس وأساغه الحلق، وانتفخ به البطن، واستدارت عليه الحوايا، واستغاثت منه المعدة، وتقوست منه الأضلاع، والتوت عليه المصارين، وخيف منه الموت. وقيل لطبيب: ما حد الشبع؟ قال: ما عدل الطبيعة، وحفظ المزاج وأبقى الشهوة لما بعد. وقيل لحمال: ما حد الشبع؟ قال: أن تأكل ما رأيت بعشر يديك غير عائفٍ ولا متقززٍ، ولا كارهٍ ولا متعزز.
** قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من أربع؛ من عدة لمعاد، وإصلاح لمعاش، وفكر يقف به على ما يصلحه لما يفسده، ولذة في غير محرم يستعين بها على الحالات الثلاث.
** قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال: لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
** كان لبيد رحمه الله تعالى آلى على نفسه كلما هبت الصبا أن ينحر ويطعم وربما ذبح العتاق إذا ضاق الخناق فخطب الوليد بن عتبة يوماً فقال: قد علمت ما جعل أبو عقيل على نفسه فأعينوه على مروءته ثم بعث إليه بخمس من الإبل وبهذه الأبيات:
أرى الجزار يشحذ مديتيه … إذا هبت رياح بني عقيل
طويل الباع أبلج جعفري … كريم الجد كالسيف الصقيل
وفي ابن الجعبري بما نواه … على العلات بالمال القليل
فدعا لبيد بنتاً له خماسية وقال: يا بنية إني تركت الشعر فأجيبي الأمير عني.
فقالت:
إذا هبت رياح بني عقيل … تداعينا لهبتها الوليدا
طويل الباع أبلج عبشمي … أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأن رعياً … عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرًا … نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد … وظني في ابن عتبة أن يعودا
فقال: لقد أحسنت والله يا بنية لولا أنك سألت وقلت عد، فقالت»: يا أبت إن الملوك لا يستحيا منهم في المسألة، فقال: والله لأنت في هذا أشعر مني.

** للشافعي رضى اللّه تعالى عنه أبيات يقول فيها:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ٭٭ سأنبيك عن تفصيلها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهاد ٌوبُلغة ٭٭ وصحبة أستاذ وطول زمانِ
* وقيل لإبراهيم بن عيينة: أي الناس أطول ندامة؟ قال: أما في الدنيا فصانع المعروف إلى من لا يشكره، وأما في الآخرة فعالم مفرط:
كن عالماً وارْضَ بصف النعال ٭٭ ولا تكن صدراً بغير الكمال
فإن تصدرت بلا آلة ٭٭ صيّرت ذاك الصدر صفّ النعال
** وأما ما جاء في الأدب فقد قال بعض الحكماء: العقل يحتاج إلى مادة من الأدب كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الطعام. وقال عليّ كرّم الله وجهه: الأدب كنز عند الحاجة، عونٌ على المروءة، صاحب في المجلس، أنيس في الوحدة، تعمر به القلوب الواهية، تحيا به الألباب الميتة وينال به الطالبون ما حاولوا. وحُكي أن رجلاً تكلم بين يدي المأمون فأحسن فقال: ابن من أنت؟ قال: ابن الأدب يا أمير المؤمنين. قال: نعم النسب انتسبت إليه. ولهذا قيل: المرء من حيث يثبت، لا من حيث ينبت، ومن حيث يوجد لا من حيث يولد.
قال الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً ٭٭ يغنيك محموده عن النسبِ
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ٭٭ ليس الفتى من يقول كان أبي
وقال بعض الحكماء: من كثر أدبه، كثر شرفه، وإن كان وضيعاً، وبعُد صيته وإن كان خاملاً، وساد إن كان غريباً، وكثرت حوائج الناس إليه وإن كان فقيراً. قال بعض الشعراء:
لكل شيء زينة في الورى ٭٭ وزينة المرء تمام الأدبِ
قد يشرف المرء بآدابه ٭٭ فينا وإن كان وضيع النسبِ
وقال بعض الأعاجم مفتخراً:
مالي عقلي وهمتي حسبي ٭٭ ما أنا مولى وما أنا عربي
إذا انتمى منتمٍ إلى أحد ٭٭ فإنني منتم إلى أدبي
** ومن قصيد الحث على التقوى ومغالبة أهواء النفس والدنيا..
مَا هَذِه الدُّنْيَا بِدَارِ مَسَرةٍ
فَتَخَوَّفي مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا
بَيْنَا الفَتَى فِيْهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ
وَبِمَالِهِ يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْاعَا
حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ المَنيِّةِ شَرْبَةً
وَحَمتْه فيه بعدَ ذَاكَ رَضَاعَا
فَغَدا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ رَهِيْنَةً
لا يَسْتَطِيْعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا
لو كَانَ يَنْطِقُ قال مَنْ تَحْتَ الثَّرى
فَلْيُحْسِن العَمَلَ الفَتَى ما اسْتَطَاعَا