حالة تذمر: هل تنكر “الوطني” لشراكاته وعامل حزب الدقير بقسوة على حساب “الأصل”؟.. حرق مراكب التحالفات
ما كان للمرء كائناً من كان، أن يرى في أسوأ كوابيسه، تذمر قطاعات الحزب الاتحادي الديموقراطي بقيادة الأمين العام للحزب، جلال يوسف الدقير، من نتائج انتخابات 2015م، إذ ظل الحزب حليفاً استراتيجياً للمؤتمر الوطني طيلة السنوات الماضية، وصمام أمان دائم للحزب الحاكم، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي سفن الاتحاديين. فالمؤتمر الوطني اتجه بكلياته تجاه الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل)، وراهن على القيادي الشاب الحسن الميرغني، رئيس الحزب بالإنابة، وقاهر (الدواعش) المتمردة في حزبه، كما يحلو لمريديه تسميته، فكل المؤشرات والمُعطيات طبقاً لرؤية المراقبين، تدل على أن المؤتمر الوطني عقد عزمه، وأعدَّ خطته للمرحلة المقبلة، بالتحالف الاستراتيجي مع نجل الميرغني، دون الالتفات إلى الماضي، وحرق مراكب التحالفات السابقة. وظل الاتحاديون يجترون مجاهدات الصوفي المعذب والسياسي المتمرد، الشريف زين العابدين الهندي، باعتباره قائد مبادرة الحوار الشعبي الشامل، دون الالتفات إلى المكاسب الذاتية والحزبية الضيقة، أو تقاسم الثروة والسلطة.
في تطور مُفاجئ برز اتجاه داخل الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يتزعمه مساعد رئيس الجمهورية د. جلال يوسف الدقير، بفض الشراكة السياسية مع المؤتمر الوطني، ورفض المشاركة في الحكومة المقبلة والتحول إلى حزب معارض شريف. واتهمت جماهير الحزب في عدة ولايات المؤتمر الوطني بخيانة العهود والمواثيق، وأعلنت رفضها لنتائج الانتخابات. في وقت تصاعد فيه التذمر والغضب على مستوى قيادة الحزب المركزية، وقررت انعقاد المكتب السياسي، لمناقشة نتائج الانتخابات واتخاذ قرار حاسم بشأنها. واعتبرت جماهير الحزب في ولايات (سنار، الجزيرة، النيل الأبيض وجنوب دارفور) نتائج الانتخابات، انتقاصا من مجهودات الاتحادي، وأشارت لمؤثرات منعت حصول الحزب على أكبر عدد من الدوائر، واتهمت المؤتمر الوطني بالوقوف مع الحزب الاتحادي (الأصل) بأساليب وصفتها بـ(غير المشروعة) لحصوله على دوائر لا يستحقها، وأشارت إلى أن (الأصل) يفتقد لوجود لجان انتخابية في كثير من المحليات والدوائر التي نالها.
يقول سفيان أحمد، مسؤول دائرة الصحافة بالحزب، لــ(اليوم التالي)، إنه عندما كانت الإنقاذ سلطة قابضة لا تعترف بالآخر، وكانت الحرب تدور في جنوب السودان وشرقه، وظهور الحركات المسلحة بدارفور وتشديد الحصار الدولي على السودان وظهور خريطة تمزيق السودان لعدد من الدول في إطار نظام الشرق الأوسط الجديد، تحركت قيادة الحزب الاتحادي الديمقراطي ممثلة حينها في الأمين العام للحزب، الشريف زين العابدين الهندي، الذي اختط الطريق الثالث، وهو طريق الحوار الوطني، فالتقى في القاهرة منتصف 1996م بالرئيس عمر البشير الذي رحَّب بالحوار الوطني، وفتح صدره للمبادرة التي قادها الشريف، وهي مبادرة الحوار الشعبي الشامل. حيث قام الحزب الاتحادي بتشكيل (4) لجان للاتصال، ومحاورة كافة الأحزاب والتنظيمات السياسية التي رحبت بها، وجاء وفد المُقدمة وبدأت الحُريات تنداح رويداً رويداً، ثم جاء دستور 1998م الذي أقرَّ التعددية وحرية التعبير والتنظيم وحرية الصحافة، وإرجاع الممتلكات المصادرة للأحزاب السياسية، ثم جاء قانون تنظيم الأحزاب الذي بموجبه عادت الحياة السياسية لأحزاب المعارضة، موضحاً أن مبادرة الحوار الشعبي الشامل وهي تتضمن (6) مرتكزات أساسية التي لم يكن فيها مطالب تقسيم سلطة أو ثروة، وأن ما أعقبها من اتفاقيات كنيفاشا وجيبوتي مع المهدي وجدة الإطاري مع الميرغني لم يخرج عن هذه المرتكزات، فبعد (18) عاماً تأتي دعوة الرئيس البشير لكافة القوى السياسية والأحزاب والحركات المسلحة للحوار الوطني باعتباره المخرج الوحيد لمشكلات البلاد وهي بمثابة تجديد دعوة لمبادرة الشريف زين العابدين الهندي الذي يمتاز عن أقرانه ببعد النظر والقراءة المتأنية والواقعية لحال ومستقبل السودان.
بالعودة إلى سيناريو الانتخابات، فإن الحزب الاتحادي الديموقراطي، بزعامة الدقير، شكَّك في نتيجة الانتخابات الحالية، وهدَّد بالانسحاب من العملية برمتها حال إعلانها بشكلها الحالي. وكشف محجوب صديق، عضو اللجنة المركزية- الأمين السياسي للحزب بولاية الجزيرة، في مؤتمر صحفي عقده مؤخراً عن أخطاء ارتكبتها المفوضية العليا للانتخابات أثرت على مجمل العملية وعلى الجو العام أدت إلى إحجام الناخبين عن المشاركة، ونوَّه إلى أن الأرقام المُتعلقة بالنتيجة تم طمسها أثناء عملية الفرز وعده تلاعبا صريحا بأرقام النتائج أدَّى لتأثيرات في الموقف العام للحزب في القائمة الحزبية، واتهم جهات لم يسمها بالتلاعب لصالح قوى سياسية أخرى ووصف الأمر بأنه استهداف للحزب وقيادته على مستوى ولاية الجزيرة والمركز، وقطع باتخاذ قرار فوري بالانسحاب وعدم قبول نتيجة الانتخابات. ويقول مسؤول دائرة الصحافة بالحزب، سفيان أحمد، لــ(اليوم التالي)، إن المؤتمر الوطني، تنكر للشراكة، وعامل حزبه بقسوة شديدة، وأظهر ميلاً واضحاً للحزب الديموقراطي (الأصل) ورجَّح كفته في الانتخابات على حساب الآخرين.
يعتبر الاتحاديون أن الراحل المُقيم الشريف زين العابدين الهندي، رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، هو تجسيد فريد للشخصية السياسية المعاصرة المتكاملة في جميع أبعادها، وأن هذا التكامل هو الميزة التي يتفرد بها عن جميع رموز الاجتهاد والنهضة والإصلاح وهو السياسي الزاهد، وقد استطاع أن يحدث يقظة وصحوة في الفكر السياسي، وأن يُطلق حركة الحوار نحو الأمام، ويحررها من كثير من القيود والأغلال التي كانت تكبله، فهو أبو المبادرات الوطنية. ولا شك عند أنصار الحزب، أن مبادرة الحوار الشعبي الشامل التي قادها الشريف زين العابدين الهندي حدث سياسي مهم يستحق دراسات واسعة، فإنه لأول مرة في العصر الحديث يكون هنالك خطا سياسيا محدد المعالم واضح الاتجاه، وأن قيمة هذا الخط ليس في محتواه الفكري والسياسي والجهادي، وإنما في انبثاقه عن عمق الوجدان الشعبي، ومن آلام آلامه وآمالها وعذاباتها وطموحاتها وحضارتها ورسالتها. ولهذا السبب بالذات تبنت جماهير الحزب الاتحادي الديمقراطي خط الشريف بوعي وبصيرة وبكامل أبعاده الفكرية والسياسية والجهادية، ونزل الخط وما يستتبعه من وعي ورؤية سياسية إلى الشارع مستفيداً من تجربة الشهيد الشريف حسين الهندي في معارضته للنظام المايوي، فالوعي السياسي في الغالب يخص طبقة ممتازة في المجتمع هي النخبة الواعية، ويبقى له تأثيره وتحريكه في داخل الأمة، وذلك بفعل النخبة، فإذا انتقل الوعي من هذه الطبقة إلى الشارع ونزل الوعي والخط السياسي بكل أبعادهما وحدودهما من غير إعوجاج ولا انحراف تحولاً إلى قوة محركة هائلة، وقدرة سياسية كبيرة وقلما يكون ذلك.
ومهما يكن من قول فإن المشروع الجديد للحزب الاتحادي الديموقراطي بزعامة الدقير لن يبدو غريباً على قواعد الاتحاديين التي دائماً ما تجد نفسها في الخط المعارض، وحتى إن المبادرة في بداياتها الأولى كانت عبارة عن تعبئة جماهيرية تلقى فيها الحزب عنتاً من النظام، لكن لأنها كانت تعبر عن ثورة انسيابية كما هو مصطلح عند الشريف زين العابدين الهندي فإنها قد أبحرت رويداً رويداً في طلاسم بحر الإنقاذ وأمواجه المتلاطمة، فاستطاعت أن تحدث هدوءً فيه واستقطاباً لعقلائه بأن الحوار هو الملاذ الآمن، وسيكون بالتأكيد الخط لصالح المعارضة الوطنية الهادفة والهادئة لا الصاخبة المتأثرة بعوامل الخارج أو النافية للمُحدِّدات الوطنية
اليوم التالي