حسين خوجلي

أما التشديد فيحسنه كل أحد!!.


(1)
ومن الإجابات التي توقفت عندها وأعطتني متعة في النظر السياسي والعقلاني والفكاهة ما حكاه الراحل الصديق مهدي دياب المحامي الذي كانت له موهبة متقدة ومقدرة فائقة في تحويل المواقف والمفارقات والأحداث إلى دراما.. وقد كانت عبقريته في ذلك تسلسل في رفق صواب أي حدث مهما كان جاداً فيمسك برفق على عقدته فيفجرها بسخريته المفطورة وعقله الموسوعي..
وقد تعوَّد في الحكي أن يفاجئك بسؤال من شاكلة هل سمعت البارحة كذا؟
هل شاهدت أم فلان؟
هل قرأت مقالات فلان؟
هل وهل؟؟ وتفجر الأسئلة التي تشدك قبل الحكاية والسرد الطريف.
وفي إحدى الليالي قابلني وابتدرني بلغته المحببة: هل سمعت البارحة بحوار إذاعة صوت العرب مع عرب البشاريين في حلايب؟
قلت: لا..
فقال بعد أن إبتسم إبتسامة عريضة: تعرض بعدم متابعتي وتنم عن راحته لإظهار مواهبه المسرحية (طبعاً مقدم البرنامج والبعثة كانوا قد أهدوا للبشاريين مجموعة من الهدايا كانت عبارة عن دقيق وأرز وشاي وسكر ودخان وبعد أن نقلوا صورة صوتية عن الهدايا قالوا لأحد البشاريين من أصحاب الهدايا والآن نريد من المواطن عثمان نافع البشاري أن يخبرنا عن جنسيته؟
ـ إنت يا أخ عثمان سوداني أم مصري؟
وبالطبع كان السؤال لعثمان فاجعاً ومباغتاً وخطيراً فأجاب والطاقم المصري يسجل، فرأى البشاري مصراً شماله والصحراء غربه والبحر جنوبه والجيش شماله فأجاب في دبلوماسية: والله كيف نقول.. «نحن في الحقيقة مصريين إلا شيخ خطنا في الأتبراوي».
وتم بث الحلقة التي أرضت المصريين ولم يفهموا يرحمهم الله «شيخ الخط» ولا الأتبراوي وبقيت الطرفة وبقى مهدي دياب جرحاً في قلوب أصدقائه لا يندمل.
(3)
كانت (رابعة العدوية) ممن أحببن الله، ووهبن روحهن فداء لنور الكريم.. كانت تسير يوماً، وقد انتزعت من قلبها عشق الوجود الإنساني، وفارقت المسرات الفانية، وعدت من أهل الطريق وكانت حالتها مزرية والفقر والعوز يضربان في هيئتها وملابسها.. فقابلها (سفيان الثوري)، وكان من أهل الله فقال: يا (أم عمرو) أرى حالاً رثة فلو أتيت جارك فلان لغير بعض ما أرى فأجابته: يا (سفيان) وما ترى من سوء حالى؟ ألست على الإسلام؟ فهو العز الذي لا ذلة معه، والغنى الذي لا فقر معه، والأنس الذي لا وحشة معه، ووالله لأستحى أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسأل من لا يملكها؟ فقال (سفيان) وهو يقول ما سمعت مثل هذا الكلام من قبل. فقالت (العدوية): يا (سفيان) إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم، ذهب بعضك، يوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل وأنت تعلم فأعلم.
(4)
٭ مما يطرب له الشوايقة وجيرانهم من البديرية والمناصير وبعض قرى الجزيرة رائعة (التمساح) التي مسحت شيوخ الشمالية كافة توثيقاً ومدحاً وعتاباً وحين تآزروا مات التمساح وفك الشوايقة (الإجازي) من العموم كم قال حاج الماحي الرائع الشفيف:
يا الفقرا الحالكم مرضية
يا أهل البيعة العقدو النية
التمساح سكن الشايقية
خلو يروح نسياً منسيا
أمين يا أمين يا كاشف الغمة
جنب ها الدابي نصبحو رِمة
تسلط أحدا ايدو مدمة
يعجل كتلو قبيح القمة
يا ابن ادريس عدل نيشانك
فوق الكل عامر ديوانك
هم يا شيخ الناس حيرانك
في التمساح بين برهانك
عبدالوهاب يا سيدي التازي
يا اب درعاً منسوب بحجازي
التمساح تمساحاً خازي
درنا العوم أودنا إجازي
(5)
٭ بعد درس هذا الشيخ المتنطع القامع والآمر الناهي يأتي الناس خائفين ليس خشية.. وصامتين ليس في طمأنينة، إنه لا يختار من الفقه إلا الذي يجعل الدنيا مقبرة والحياة قفر والتطلع فقر والموت يتربص بالمؤمنين دون أن يسمح بعلم وعمل وفرح وطمأنينة..
إذا سألوه دلهم إلى أضيق المسالك وأعسر الدروب حتى تجحظ الأعين وترتجف القلوب التي في الصدور.. دست إليه ورقة وانصرفت وكانت كلمة سيدى سفيان الثوري الخالدة: «إنما العلم الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد».
(6)
٭ آخر حكاية سمعتها في بيت عزاء أن أحدهم ماتت شريكة حياته فعاد (للطلاقة) والانطلاقة مرة أخرى والتأمل وألغى وزارة ماليته الخاصة.. نسابته وأصهاره ملأوا عليه البيت يوماً وأبدوا رغبتهم في (تعويضه) فانتفض صارخاً تعويض ليه هو كان زواج ولا تأمين؟!!
(7)
٭ قالوا له مراراً عليك أن تجدول المبذول للجيب .. لكنه أبى وقال صارخاً: إن الفرح لا يجدول في شهر واحد .. أعطى العطور والرياش والسيارة والشقة الديلوكس فأترفها وسد عليها أفق الأشياء والأحلام..
وفي ليلة يطرزها الهمبريب ويندلق على محياها القمر أرسلت الأعين الفاترة وقالت بدلال جارح يا هذا: إن الشئ الوحيد الذي ينقصني حبيب في قامتي وحسني وبهائي وتدللي المتهور.. وانزلق في بيداء اللا شئ ..وما أتعس الحبيب حين يترجل حافياً ويبعده الأهيف للصالح العام!!
(8)
٭ لازالت بغداد الجريحة تراقب القمر وتصلي الأسحار وتنشد قريض عباس بن الأحنف وتقرأ مع السياب:
كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده
لم يهرب أحد
ولم يستسلم أحد
ولم يبادر أحد
ولم يستجدي أحد