عبدالله إبراهيم علي : حتى لا نرى عيوب الآخرين
الأدب من حيث هو شكل فني يترك أثراً نفسياً وأخلاقياً وفكرياً عميقاً في نفس المتلقي، ويكتشف الأدب نواحي مختلفة من الخبرة الإنسانية بشكلٍ جميل، كما أنه شكل من أشكال الخطاب الثقافي، فالبعض يريد أن يُؤدِب الآخرين وهذا شيء جميل غير أنه يأبى التَّأديب لنفسه، وفي ذات السياق تحضرني عبارة لابن المقفَّع والقائلة: إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو لسُلطانٍ فلا يُعْجِبك ذلك فإنَ الكرامة تزُول بزوالهما ولكن ليُعْجبك إذا أكرمك الناس لِدِينٍ أو أدب، فلا تُوجَد سعادة دائمة ولا حزن باقٍ، كلها فواصل لمراحل جديدة فابتسم لأجملها وتجاهل أتعسها.
وقال عبدالملك بن مَروان لبَنِيه: عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً وإن اسْتَغنيتم عنه كان لكم جمالاً.
فالكمال لله وحده وكلنا خطاء وخير الخاطئين التوابون، فلو كان الكل كاملا، فأيَّ شيءٍ كنَّا نتحمله من قبل الآخرين؟ إذن لنتعلَّم أن ( نحمِل بعضنا أثقال بعض)، إذ لا يُوجد أحد بغير نقص ولا أحد بغير ثقل، كلنا نحتاج لبعضِنا بعضا، ولا أحد في غنىً عن الآخرين، بل ينبغي لنا أن نتحمل الآخرين ونتغاضى عن هفواتهم ونلجأ إليهم ليساعدونا عندما نحتاج المساعدة، وأن يساعد أحدُنا الآخر، ويرشده وينصحه، فمقدار فضيلة المرء، أن يظهر بجلائه عند الشدائد، وشيمة الأكرمين العفو والصفح الجميل، فالتهذيب يهزم الوقاحة والتواضع يحطم الغرور والاحترام يسبق الحب.
ولطالما قمة الإنسانية ألا تُشعِر الآخرين بالإحراج، تحضرني قصة لرجلٍ قد تزوج من امرأة جميلة أحبها كثيراً، وجاء وقت انتشر فيه مرض (الدمامل) وهو عبارة عن حدوث التهابات موضعية على الجلد ، تكون في البداية على شكل بقع حمراء سرعان ما يتكون بداخلها صديد.
وفي يوم من الأيام شعرت الزوجة الجميلة بأعراض المرض وعلمت أنها مصابة به وستفقد جمالها، كان زوجها خارج المنزل وقتها ولم يعلم بمرضها، وفي طريقه للعودة أصيب بحادث أدى لفقد بصره وأصبح أعمى وأكمل الزوجان حياتهما الزوجية، وفي كل يوم تفقد الزوجة جمالها ويتشوه جسمها أكثر، والزوج أعمى لا يعلم بالتشوه الذي أفقدها جمالها، بل تحول جمال الزوجة إلى قبح وأكملا حياتهما لسنواتٍ عديدة بنفس درجة الحب والوئام بينها في أول زواجهما ، فلا يُعاب المرء على فقره ولا قُبح شكله، فليس له في ذلك حول ولا قوة، إنما يُعاب على قُبح لسانه ودناءة أخلاقه، فالأخلاق هي الروح التي لا تموت بعد الرحيل.
استمر الرجل في حبه لها بجنون ويعاملها باحترام كما كان في السابق، وزوجته كذلك إلى أن جاء يوم توفيت فيه زوجته، تأثر الزوج وحزن عليها حزناً شديداً لفراق حبيبته،
وبعد أن انتهت مراسم دفنها بدأ الرجال في الرجوع إلى منازلهم، فقام الزوج وخرج من المكان وحده، فناداه رجل من الذين حضروا مراسم الدفن، إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: إلى بيتي، فرد الرجل بحزن على حاله: وكيف ستذهب وحدك وأنت أعمى؟ حيث كانت زوجته دائماً تقوده وتعينه على الطريق، فقال الزوج: لست أعمى إنما تظاهرت بالعمى حتى لا أجرح زوجتي عندما علمتُ بإصابتها بالمرض، لقد كانت نعم الزوجة وخشيت أن تُحرَج بسبب مرضها فتظاهرتُ بالعمى طوال هذه السنين، وتعاملت معها بنفس حبي لها قبل مرضها، فنحن جميعنا محتاجون للتظاهر بالعمى كي لا نرى عيوب الآخرين، فالصبر الجميل هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري أحدٌ بأنه مصاب.