ابراهيم عثمان : جدلية نقد الذات و مدحها
من المفروض أنه ليس من السهل أن تنتقد ناقد ذاته ، فالمفروض أنه يمارس فضيلة لا يقترب منها الكثيرون ، و المفروض أنه بهذا النقد الجذري للذات قد انتقل إلى مربع جديد يجعله، بما يمتلك من شجاعة نادرة ، يمثل إستثناء في الساحة السياسية ، ليصبح صوت الحق الأقوى ، فالذي يملك من الحس الأخلاقي هذا القدر الذي يجعله يقول الحق و لو على نفسه و ينتقدها بأكثر مما فعل خصومها ، الذي يفعل ذلك يُفترض أنه و بهذا التجرد المنعدم النظير قد أصبح هو صوت الضمير الذي يطلق أحكامه و يتخذ مواقفه بعد أن ينقيها تماماً من أي شبهة غرض ذاتي ، و المفروض أنك لا تملك إلا أن تُحيي شجاعة من يرتاد المنابر و يكرر و يثابر ليقنع الناس أنه لا يستحق مجرد الإنتقاد فحسب ، بل ينبغي أن يُصلب حياً في ساحة عامة ليأتي الشعب جميعه و يبصق عليه و يتفنن في أساليب الإنتقام منه فهو – كما يقول – يستحق هذا و أكثر . غالب ردود الفعل المتوقعة لهذا النوع من الفعل ستكون هي التعاطف و الغفران من جانب الضحايا المفترضين ، فخدمة كبيرة هي تلك التي قدمها لهم الذي يقول : ( لقد أجرمنا في حقكم بأكثر مما أدعيتم في أكثر إدعاءاتكم تضخيماً ، بل حتى فبركاتكم – أو ما ظننتهم أنها كانت فبركات – تتقاصر في سقفها عما ارتكبناه في حقكم . فنحن السم الزعاف الذي سرى في شرايين التاريخ ، نحن الموت الزؤام الذي قتلكم و أوهمكم بأنكم لا زلتم أحياء ، نحن بإختصار المعادل الموضوعي للشر المطلق الذي لا تتسع له تصوراتكم و لا تعرفوه حتى في كوابيسكم ، صغيرنا دجال و كبيرنا ( عدا الكبير الكبير) منافق و قادتنا كلهم – عدا قلة هم معي الآن – ما بين قاتل و فاسد و جامع بين الإثنين ، فالقتل عندنا هواية نمارسها لأتفه الأسباب ، و قد حكيت لكم بعض قصصها و لديَّ المزيد ) . و لكن كل هذا يجرح فيه و يطيح به هواية المبالغة في مدح الذات التي تتسلل معالمها بين سطور هجاءها المضللة .
و لكن ناقد الذات هذا بالذات – و هو ليس فرداً على كل حال – هو أكثر الناس استحقاقاً للنقد ، فهو يبيعنا نقداً ذاتياً مغشوشاً يتصف بكل ما يناقض براءة النقد الذاتي ، يكفي ركاكة و عبثية الصورة التي يقدمها لنا عن التجاور التاريخي المتطاول بين نموذجين بلغا القمة في النقاء الماهوي : الحق المطلق الذي يشهد له بمئات الإستشهادات دون أن يكون من بينها و لو تفصيلة صغيرة تعكر نقاءه ، و الباطل المطلق الذي يدلل عليه أيضاً بمئات القصص ليس في فترة الإبتلاء السلطوي فحسب بل منذ أمد بعيد ، و دون أن تعكر صفاءه أيضاً تفصيلة خير صغيرة تلوثه . هذا التجاور الذي -بزعمهم- لم ينتج عنه أي تفاعل سوى ذلك الذي يحدث عادة بين الحق و الباطل ، و الخير و الشر ، إذ استعصم كلا الطرفين ببضاعته و لم يتسبب تجاورهما في تسرب بعض هذه إلى تلك أو العكس ! ، فالأنوار الباهرة للحق النقي الصافي – بزعمهم – لم يفلح و لو قبس صغير منها في اختراق حصون الباطل ، و الظلمات الحالكة للباطل لم يستطع و لو رجس صغير من رجسها الماكر أن يصرع ومضة ضوء واحدة ، و مع ذلك ظلا و لفترة طويلة يتعايشان بإنسجام تام !
الغش في هذا النقد ليس فقط في الفرز الماهوي الجذري ، و لكن قبل ذلك في التلاعب الذي يستخدم (نحن) ليقول (هم) ، نحن لا تأتي إلا لتعطي الإدعاءات قوة النقد الذاتي ،( نحن ) ليست سوى محاولة فطيرة لتمثيل دور شاهد الملك ، و شاهد الملك بالبديهة لا يكون مجرد مراقب أو شاهد تصادف وجوده في مكان الجريمة أو المؤامرة بل هو في العادة أحد المشاركين صحى ضميره أو خاف من العقوبة فقرر أن يشتري نجاته بكشف أبعاد المؤامرة و دوره فيها ، و لا يكون شاهد ملك إن كان عنده من الأدلة ما يثبت براءته من كل الإتهامات . أو كان لا يعترف إلا بالتهم التي سقطت بالتقادم أو بالتهم التي لديه من الحجج ما يبرر وقوعه فيها ، أو التهم التي وقع فيها بحسن نية و كان تحويلها إلى جريمة هو عمل خالص قام به الآخرون .. و الغش في هذا النقد أيضاً يتمثل في أنه إذا كان لديك حقاً هذا التجرد و هذه الخيرية النادرة و أنك الديمقراطي بالسجية الذي يحترم حق الجميع في الإختلاف ، فإن هذا يقتضي منك أن تكون صوت الحكمة و الإعتدال بما يجعلك تقوم بنقد الآخر الجديد دون أن تجعل الحل الحصري هو في إقصائه .. وواقعك يقول العكس فأنت تقول ، أحياناً ، أنك تغيرت و تغيرت نظرتك إلى الآخر و لكن الواقع يقول بأنك لم تتغير بل الذي تغير هو من تعده الآخر . خطابك الإقصائي هو هو فقط تغير اتجاهه ، لم يتغير خطابك بل تغير المستهدفين به ، بل إن الإقصائية أصبحت أكثر فجاجة و ذاتية ، فإن سلمنا بأن الأنانية أحد العوامل الفاعلة الطبيعية في عالم السياسة ، فلا يمكن أن نفعل ذلك دون أن نسلم بأن الأنانية المغطاة بمشروع ( أياً كان نوعه أو مدى مصداقية الإيمان به ) أعلى في سلم القيم من تلك العارية التي تجردت من أي مشروع سوى مشروع الإنتقام أو حاولت أن تستلف مشروعات أخرى مع محاولات مرتبكة لإيجاد نسب قديم معها . ما حدث من تغيير لا يعدو كونه إعادة تموضع في ساحة النزاع الأناني و ليس إعادة نظر في أنانية سابقة بما يتجاوزها إلى فضاء أرحب تقل فيه نزعة الأنانية .
كل التحليل السابق كان ينطبق على المؤتمر الشعبي حتى حين قريب ، و لكن يبدو أن الحزب – بحكمة و حنكة قيادته التي لا ينكرها إلا مكابر – قد أدركوا أنهم سيكونون أكثر فعالية في الساحة السياسية عندما يخرجوا من خانة التخندق الإنتقامية التي لم تفعل سوى زيادة أوجاع إلى أوجاع البلد ، إلى خانة الفعل السياسي الإيجابي من أجل حوار حقيقي لا يجامل السلطة و لا يجاري دعاة التمرد و الإحتراب ، و الشعبي بسياسته الجديدة أكثر اقناعاً للجميع بأنه قد تغير في نظرته للآخر ، فهو الآن لا يعادي طرفاً من أطراف الصراع عداءً صارخاً بل يمثل حالة وعي سياسي وازن تجعله في حالة حرية كاملة لإنتقاد كل من يفعل ما يستحق الإنتقاد . فالطبيعة الجذرية لقطيعته السابقة مع من يجمعه بهم النسب الفكري و التماهي السياسي التام و الفكري إلى حدٍ ما مع خصومه الفكريين ما كان يمكن تبريرهما إلا بنزعة الإنتقام . و لكن يبدو أن الخروج من مربع التطرف إلى الإعتدال ،و من مربع التماهي التام مع اليسار و حركات التمرد و خدمة أجندتها إلى مربع المساهمة في حل معضلة التمرد و الحل السياسي الشامل ، يبدو أن هذا الخروج إلى ساحة الفعل السياسي الإيجابي سيخلف وراءه بعض الجيوب المتطرفة في تماهيها مع اليسار و التمرد سياسةً و فكراً و أحلام ، سيظلون هناك يدندنون بذات اللحن القديم الذي ملته الأسماع ، سيتغنون بذات اللحن رغم أن بعض كوبليهاته مخصصة تحديداً لسب حزبهم بنسخته الجديدة . و سيظل رهانهم على فشل الحزب و العودة إلى ذات اللحن القديم ، غير عابئين بأن اللحن في هذه المرة سيكون نشازه أكبر ، فالمتطرفون هناك الذين قسروا أسماعهم في السابق لسماعه أملاً في خدمة يقدمها ، يعلمون أنه قد استنفد في الفترة السابقة كل ما باستطاعته تقديمه ، و أنه بلهجة الإعتدال و الحكمة الأخيرة لن يندرج بسهولة مرة أخرى في أوركسترا التطرف ذات الألحان الحادة القاطعة خاصةً و أن المايسترو هذه المرة سيظل يرمقه شذرا و يتوعده من حين لآخر .