محمد كريشان : فضيحة أحمد منصور
أقل من ثلاثة أيام كانت كافية تماما لإبراز مجموعة من الحقائق تبدّت دفعة واحدة بين لحظة اعتقال مقدم البرامج في قناة «الجزيرة» أحمد منصور ولحظة الإفراج عنه. وإذا ما تركنا جانبا «الشراسة» التي أبدتها القناة التي يعمل فيها منصور في الدفاع عن أحد أبرز نجومها وجعله يتصدر نشراتها كافة قبل أي تطورات عربية ودولية أخرى، وهو ما عرفت به المحطة دائما في قضايا سابقة أشهرها تلك التي تعلقت بتيسير علوني أو سامي الحاج، فإنه من المهم الخروج بجملة الحقائق التالية، جميلها وقبيحها:
– يقظة الطبقة السياسية الألمانية وحساسيتها الشديدة تجاه اعتقال صحافي فقد تعددت التصريحات المنتقدة لما جرى، أو على الأقل المطالبة بتوضيحات أو المحذرة من أي مآلات سيئة على البلاد وسمعتها. لم تتأخر هذه التصريحات من نواب برلمان من أحزاب سياسية مختلفة ومن شخصيات اعتبارية أظهرت جميعها مرة أخرى حيوية المجتمع الألماني في الدفاع عن قضايا الحريات. هذه الحركية هي التي دفعت السلطات إلى توضيح موقفها عبر متحدث باسم الخارجية وصولا إلى قرار إطلاق السراح دون توجيه أي اتهام.
– حرص المؤسسة القضائية في ألمانيا على عدم الزج بنفسها في قضايا شبهتها السياسية فاقعة ولهذا اقتصرت خطواتهاعلى سماع منصور من قبل قاض إجراءات لجمع المعلومات الأولية فيما لم يطلبه المدعي العام للمثول أمامه ليبت في شأنه. اتخذ المدعي العام قراره دون ذلك وربما بناء على اتصالات لا أحد يدري طبيعتها حاليا. لم ينظر في الملف التي قالت السلطات المصرية إنها أرسلته منذ اليوم الأول، أو لعله نظر فيه ليكتشف بسرعة رائحة التلفيقات وتصفية الحسابات السياسية التي تفوح منه.
– الهبة التي أظهرتها كبرى المنظمات الدولية المدافعة عن حرية الصحافة في العالم مثل «لجنة حماية الصحافيين» في نيويورك و»مراسلون بلا حدود» في باريس و»الاتحاد الدولي للصحافيين» في بروكسيل مما أكد مرة أخرى أن هذه المنظمات لا تتأخر في التفاعل التضامني القوي مع الصحافيين خاصة عندما تكون القضايا مفضوحة في فبركتها ومفضوحة كذلك في نوعية الأنظمة التي تقف وراءها.
– المستوى المؤسف الذي أبداه بعض الصحافيين في الخلط بين الموقف من منصور وحتى من القناة التي يعمل فيها، وهي حق لكل واحد لا نقاش فيه، وبين ضرورة التضامن مع صحافي يتعرض لقضية كيدية واضحة . ومن أجمل ما كتب في هذه النقطة ما كتبه حلمي الأسمر في «الدستور» الأردنية حين قال «لـم يسـتوقفني شـيء وأنـا أتـابع هـذه القضية قـدر مـا اسـتوقفتني الشـماتة التـي أبـداها زمـلاء! إعلاميـون، طـاروا فرحـا بسـبب اعتقـال زميلهم، وهــم أعلـم النـاس بتفاهــة الاتهامات المسـندة إليــه، ولكنها مشـاعر رخيصـة، بعيـدة كـل البعـد عـن روح الزمالـة، وتتنـاقض مع الحـس البشـري للإعلامـي والصـحافي، وصـحب الموقـف، المفترض أن يكــرس نفسـه لنصـرة المظلوم، لا أن يرفع الظالم على رقبته ويدور هناك وهناك، مروّجا له، لاعقا لحذائه».
– نوبة التشنج التي دخلتها الأوساط السياسية والإعلامية المصرية والتي يخيل إليك معها أن الجميع باتوا مستعدين لانتظار أحمد منصور يصل القاهرة حتى يجري سحله في ميدان التحرير تشفيا منه ومن الجهة التي يعمل بها والتيار السياسي المتعاطف معه. لقد أظهرت هذه الأيام الثلاثة مرة أخرى أسوأ ما يمكن أن يصدر في مصر ليس فقط من السياسيين وسدنة النظام في أوساط مختلفة وإنما أيضا، وهنا المأساة، من أشخاص يصنفون على أنهم إعلاميون ومقدمو برامج تلفزيونية مثله، بل إن منهم من كان أحمد منصور يوما ما من ضيوف برامجهم. لقد دخل بعضهم في حالات هستيرية سواء عند إلقاء القبض على الرجل أو عند إطلاق سراحه وأحيانا بلغة سوقية بذيئة.
وحتى إذا ما تركنا جانبا المناكفات المصرية القطرية بأوجهها المختلفة، فإن ما جرى في برلين في الأيام القليلة الماضية لم يزد إلا في إدانة السلطات المصرية الحالية خاصة وأنه لم تمض على زيارة الرئيس السيسي إلى هناك فترة طويلة، وهي الزيارة التي سلطت الضوء بشكل كبير في الأوساط الألمانية على ممارسات نظامه في مجال الحريات وحقوق الإنسان. وهذه مسألة ستعود إلى السطح من جديد الآن في ألمانيا وسيدق هذا المسمار أكثر، فما جرى هذه الأيام له تداعياته الداخلية التي قد تستغرق وقتا لأن هناك بعض النقاط الغامضة التي سنرى كثيرين ينبرون للتساؤل عنها ومساءلة أي ذي علاقة.
في النهاية، الحصيلة لم تكن باختصار شديد سوى خروج منصور وقناته بمزيد من الإشهار المجاني، ومن يقفون في الضفة الأخرى بمزيد من سواد الوجه.
٭ كاتب وإعلامي تونسي