مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : شعوبٌ مكابِرة


حين صاغ نزار قباني أسئلته التي جاءت على شكل قصيدة “مكابرة” لم تكن تتعدى ذلك البُعد الفلسفي في علاقة حب غير متأزمة. وبالرغم من ذلك، فقد زاد من تعقيدها بمكابرة الذات: “تراني أحبك؟ لا أعلم، سؤالٌ يحيط به المبهم، وإن كان حبي لك افتراضًا. لماذا؟ إذا لحت طاش برأسي الدم، وحار الجواب بحنجرتي، وفر وراء ردائك قلبي، ليلثم منك الذي يلثم، أنا لا أحب .. ولا أغرم”.

هذا ما يحدث في الحالات الوجدانية، عندما تدخل المكابرة فإنّها تلغي كل إحساس سليم ونقي، ويتحوّل أي إصرار على الخطأ وعناد بعدم الاعتراف به، إلى خلل في الصدق والشفافية، فكيف إذا تحوّل هذا الأمر إلى ممارسات الواقع وأشدّها سوءًا على الإطلاق، وهو الواقع السياسي العربي على مختلف مستوياته.

يكابر الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح وبعد زمن من الفتن والأزمات التي تسبب بها للشعب اليمني، يعود ليعلن أنّه حليف الحوثيين. ويكابر الرئيس السوداني حول مواجهاته اتهامات محكمة الجنايات الدولية، ولا يستمر إلّا بعد أن يصل إلى باب الخروج فارًا من المواجهة نفسها ليواصل في مكابرته.

هذه المكابرة على مستوى الرؤساء تقابلها سخرية تعكس نوعًا من لمس بعض الحقائق الممنوع الاقتراب منها، فهي بتطور الحالة مكّنت من ظهور حالات أخرى متفرعة منها وتتوارى خلفها كثير من الحقائق. توالدت المكابرة من هذه المواراة وقد كانت السخرية إحدى طرق التعبير عنها ثم نمت على مدى السنوات الماضية في الحياة العامة والتفاعلات الشخصية المختلفة. تسللت المكابرة من معناها الاصطلاحي بأنّها منازعة في المسألة العلميَّة لا لإظهار الصَّواب، بل لإلزام الخصم، نمت وربت حتى صارت تعبّر عن حالة فقدان الرغبة في مواجهة المشكلة بشجاعة أو حتى الاعتراف بأنّ هناك مشكلة، وهي مسألة ترتبط على نحو ما بمسألة الصدق مع النفس والآخرين. فعلى المستوى السياسي تتحوّل مظاهر الفشل على عدة مستويات إلى حالة يتم تشخيصها مسبقًا بأنها “مؤامرة” توجّه إليها كل خطوة يقوم بها الآخر”الخصم” سواء أكان علنيًا أو مجهولاً. وهذه المؤامرة تفسر أي حدث لدرجة أنّه ساد التفكير بها حتى باتت تشكل خلفية لكل قدَر وطني. وبهذا تحجب نظرية المؤامرة رؤية الواقع كما هو، فتعفي (أهل العزم) وتريحهم من طرح أو تحليل عوامل موضوعية اجتماعية واقتصادية أو سياسية يمكن الإمساك بها ويمكن الاعتراف بأنّها أصل الداء.

ومنذ توحدت الشعوب العربية على نيل الاستقلال وحصولها عليه، يتم الرفض بالاعتراف بأنّ البلاد يحيق بها التمزّق ومعرّضة للانقسام والتشرذم من جهاتها الأربع بفعل الولاءات الطائفية التي تشكّل محرّكا أساسيًا لكل أشكال العنف فيها. هذه الولاءات تفرض نفسها كقوة سياسية بشعة يقول لنا التاريخ أنّها فُرضت من الخارج “فرّق تسد” حيث جمّع المستعمر بعض القبائل لمناصرته، قرّب بعضها وبعّد أخرى، ومع ذلك فنحن ننادي من أجل مفهوم الوحدة الوطنية كمطمح سامٍ من داخل قبائلنا لا من فضاء الوطن.

تفشت ثقافة المكابرة حتى أصبحت ثقافة عربية بحتة يتميز بها العرب دون غيرهم، فعلى المستوى الاجتماعي تتفاعل بعض السلوكيات لينتج عنها محفزات آلية للدفاع عن بعض الأخطاء والتجاوزات وذلك لتحقيق نوع من الرضا أو الإيهام به وتقليل الخسائر الناجمة عن سلوك معين. وفي الخارج فالعربي يُظهر المواقف الدفاعية المختلفة في أغلب الأحيان، ويخفي مشاعره وعواطفه وفي أحيان أخرى رأيه ويتجنب الصراع خشية من عدم الاتفاق مع الآخرين، يحاول أن يحافظ على رباطة جأشه أمام المواقف العصيبة. ولكل ذلك نرى أنّ الشعوب العربية في حالات الأزمات والحروب والكوارث التي تلم بها، لا يظهر عليه جوع حين تتعذر لقمة العيش، ولا عري حين تتعسر “السُترة” ولا ألم حين تموت الفرحة في حدقات العيون، وهي بهذا تُعتبر شعوبًا مأزومة ورغم أزماتها تحاول الظهور بصورة جيّدة ومثاليّة في تعامٍ واضح عن كل ما يتعارض مع هذه الصورة المتوهمة.