حسين خوجلي

أوعك من ضل الضحى.. !!


كان موظفا مستور الحال بهيئة توفير المياه.. يفطر (بالبوش) ويستدين من زملائه ويشجع المريخ (ويخمس) الجريدة ويشتم أمريكا ويصلي الظهر مع الجماعة ويركب عربة الموظفين عائداً للدروشاب ليبدأ معالجة مرافعاته المتوترة مع زوجته التي جاء بها من (الريف) فتمدنت فأصبحت (مبوجنة) لا بتحلب الغنم مثل الريفيات ولا بتسوي (المحشي) مثل بنات البندر !!
إنها الوصفة والوصف الذي كان يطلقه على أم ريد والتي كان يتغزل فيها قديما بأبيات ود دوفة:
شن خلاه يا أم الريد المرض بتحول
كنت بضيفو لي جرحي المنوسر طول
كان أمره كله في هذا الإتجاه حتى أصابته (هاشمية) التنظيمات، فتدرج فيها بسرعة صاروخية ، ساعده في ذلك ترؤسه لإتحاد الحصاحيصا الثانوية في السبعينات (وشوية إعتقال)، وفي قمة نشاطه اختاروه وزيراً إقليميا منصباً علق عليه (خبيث المصلحة) قائلا :(كنا قديما نظن أن الزواج قسمة، حتى تم تعيين عثمان، فأصبحت الوزارة قسمة).
وبعد أن سكن السرايا في العاصمة الاقليمية وزارته القبيلة وشوهد في الديوان (لافي شالو) وفي البيادر كاسح باللاندكروزر وأصبحت زوجته تلبس القطيفة وتدفع (أب خمسة الملون).
جاء التعديل الوزاري ، فأطاح به ما بين يوم وليلة .. وقد شوهد بعد شهور بلا عربة وبلا بيت وبلا وجاهة..
واكتشف أنه لن يستطيع أن يصبح وزيرا مثلما إنه لن يستطيع أن يعود أفنديا للخدمة العامة.
ومن حيث لا يحتسب أصبح المسكين محاصراً بأم أولاده. زوجة الوزير السابق، وأولاده أبناء الوزير السابق، وقبيلته قبيلة الوزير السابق.
وما بين الفقر والمعارضة واليأس والتلاشي وعدم الواقعية، أفسد النظام السياسي مواطناً سودانياً، بل أفسد أسرة سودانية بحالها تعيش الآن (ماضي الذكريات).
زارني الرجل قبل فترة، فظننت جهلا أنني سأقابل ذلك الصديق القديم بتلقائيته وبساطته وتواضعه ، فاكتشفت خطئي منذ الدقائق الأولى لقد سرد لي الرجل في لغة مأساوية كل توتراته واحباطاته ويأسه، ونسج مؤامرة كاملة بشخوصها ووقائعها، يعتقد إنها هي التي أبعدته .. وفوق ذلك فقد حكى لي مجموعة أقاصيص لضحايا آخرين من الوزراء والوكلاء والمحافظين من الذين ظنوا أن الوظيفة العامة خالدة فوجدها (ضل ضحي).
وأخبرا سأل سؤاله المحرج لكل الفقراء المتعففين من أصدقائه القدامي (أيدك علي جيبك وإنت عارف الحالة الصعبة).. قديما كانت القيادات من (أولاد العز) ولا أقول أصحاب (الدم الأزرق)، بل أعني عز وكفاية الطبقة الوسطى التي بدأت تتلاشي بأسرع ما تتوقع كل الاحصاءات.. تلك القيادات التي كانت تحسب أن الوظيفة العامة تكليف باهظ الثمن لا تشريف يعضون عليه بالنواجذ ، حتى إذا ما انتهت فترة تكليفه عاد إلى مهنته الأولى شرف و(سترة) وكفاية!!
أما الآن، فإن المعزول لا يعود أبداً لمهنته .. ويظل طول عمره يحمل بطاقة الوزير السابق، يشم مواقع التوظيف في مجالس الادارات والسفارات والكوتات والعطالة المقنعة.. وهي صفات إنعتق منها القلة من الذين تدثروا بعبارة العقاد الخالدة (إن الوظيفة رق القرن العشرين)!.