محجوب عروة : من ذكريات الماضي الغبي
قاتل الله الخلافات والصراعات حول كراسي السلطة الزائلة والحروب الأهلية واستبدال العمل السياسي السلمي بالعمل المسلح، ففي سوداننا حدثت مثل هذه الصراعات التي سالت بسببها دماء كثيرة وفقدنا بسببها أرواحاً عزيزة وضاعت بسببها موارد هائلة كان يمكن أن تجعل من هذا السودان جنة الله في أرضه وأقوى اقتصاد في هذه المنطقة من العالم وسلة غذائه وليس كما هو حاصل سلة مبادرات العالم وضعفاً في الاقتصاد وتدهورا في معيشة أهله ونقصاً وتقلصاً في مساحة أراضيه وسيادته. تذكرت ذلك كله وأنا أستعرض في إجازة العيد أحكي لأبنائي بعضاً ممن عايشته شخصياً واشتركت فيه من عمل عام سياسياً سلمياً كان أو مسلحاً عسى أن يتعظ هذا الجيل مما كنا نفعله من غباء سياسي هو الذي أورد بلادنا موارد التهلكة وأدخلنا في هذا النفق المظلم من انتشار السلاح والحركات المسلحة بأفعالها الضارة لدرجة الغزو المسلح والزحف على العاصمة فحدث ما حدث فيها من خراب وفوضى والذي إذا لم نغلق هذا الباب فلن يندهش أحد إذا حدث في بلادنا ما يحدث حالياً في اليمن وليبيا وسوريا والعراق ومصر والصومال.. هذه الدول الفاشلة.. قلت متذكراً إن أنسى لا أنسى حين استعدت المعارضة لنظام مايو ورئيسه النميري الذي رفض كل محاولات المصالحات الوطنية حيث عرقلها جناح الصقور ومراكز القوى في نظامه التي ابتدرها وطنيون مخلصون يريدون الاستقرار والسلام والنماء (التاريخ يعيد نفسه)، قلت استعدت المعارضة بسبب ذلك الرفض لجولة جديدة في المعارضة حيث توصلوا الى أن النميري لا يعرف الا لغة القوة والسلاح وليس الحوار السلمي فذهبوا إلى ليبيا القذافي عام 1974 والذي كان على خلاف مع النميري ففتح القذافي لهم معسكراته وتم تدريب أعداد كبيرة من الأنصار جلبهم الشريف حسين الهندي من الحبشة عقب هجرتهم إليها بعد مقتل الإمام الهادي المهدي بعد أحداث الجزيرة أبا عام 1970. كما انضم للمعسكر بعضاً من شباب الحركة الإسلامية التي كانت أحد مكونات الجبهة الوطنية.. في عام 1975 وبعد تدريب مكثف في منطقة الكفرة بليبيا شرعت المعارضة في تسريب المقاتلين إلى داخل السودان استعداداً لعمل عسكري حاسم وأدخل سلاح كثير تم دفنه على مشارف أم درمان. في تلك الفترة كنت قد ذهبت الى ليبيا من مصر بالطريق البري باقتراح من الأستاذ الصادق عبد الله عبد الماجد وذلك بغرض العمل بعد فصلي من وزارة الإعلام ثم من وزارة الخارجية ثم جريدة الصحافة. بعد ثلاثة أشهر وجدت عملاً كمترجم في وزارة التجارة الليبية. وبعدها وتحديداً في منتصف يونيو 1976 حضر من لندن الى طرابلس الأستاذ أحمد عبد الرحمن للالتحاق بقادة المعارضة في منطقة الكفرة (هم الصادق المهدي، الشريف حسين، د. عمر نور الدائم، عثمان خالد مضوي، إبراهيم السنوسي، مهدي إبراهيم وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم وكان أحمد سعد عمر سبقهم لداخل السودان والعميد محمد نور سعد ومبارك المهدي وآخرون حيث كان المقاتلون الأنصار وشباب الإخوان أمثال غازي العتباني وإخوته مخبأون في بيوت في نواحي العاصمة. عندما التقيت أحمد عبد الرحمن في طرابلس قبل سفره إلى الكفرة طلب مني أن أسافر الى السودان وأقابل المسؤول العسكري للإخوان وأقول له أن يربط الضباط الإخوان في الجيش بالعميد محمد نور سعد ومبارك الفاضل بغرض التنسيق من أجل نجاح العملية العسكرية فقد كانت الخطة أنه عندما يستلم المقاتلون الأنصار وشباب الإخوان العاصمة والقيادة العامة وبقية الوحدات العسكرية كعملية مفاجئة للمخابرات العسكرية وقيادة الجيش يقوم الضباط الرسميون بإعلان استلام السلطة فور فك الضباط المعتقلين في سجن كوبر وذلك باعتبار أن العملية هي انقلاب عسكري قانوني حتى تنضم اليه كل القيادات العسكرية في الأقاليم.. عدت للخرطوم سراً والتقيت بالمسؤول العسكري (ي.ع.) والذي فاجأني بقرار حاسم من المكتب العسكري والمكتب التنفيذي بأن أرجع فوراً الى طرابلس وأقول لأحمد عبد الرحمن وبقية القيادات الإخوانية لن أعطي اسم ضابط واحد من الإخوان فأكشفهم، بل أوقفوا هذه العملية العسكرية الفاشلة لأسباب عددها منها بروز خيانات وعدم تعاون بين الأطراف الممسكة بالعملية العسكرية؟؟!!. وفي اليوم التالي قطع لي تذكرة العودة لطرابلس وأمرني بالعودة فوراً، ولكن للأسف وجدت الأستاذ أحمد سافر ولم أتمكن من توصيل الرسالة وكان ذلك قبل يوم من العملية العسكرية التي استمعت اليها وأنا أقود سيارتي في شوارع طرابلس بحثاً عن مسؤول ليبي ليوصلني لأستاذ أحمد ومن معه فصدمت السيارة التي أمامي من شدة الذهول والمفاجأة فقد كنت أعلم أنها فاشلة كما قيل لي وهذا ما حدث. (أشهد أن الأستاذ أحمد كان غير مقتنع بالعمل العسكري من الخارج ولهذا قصة أخرى تؤكد ذلك أرويها لاحقاً).