منى عبد الفتاح : داعش.. ثراء وسط الدماء
التقط تنظيم داعش قفاز وعود الثراء المفتوحة كإحدى وسائل التجنيد، والخُطة الذكيّة هنا ليست بوعدٍ مجرّد ولكن بتبخيس قيمة الحياة الدنيا بما فيها، فكثيرٌ من الرسائل والمداولات بين أعضاء التنظيم في استقطابهم لمجندين جدد، تلقى فكرة عن زيف هذه الحياة وأنّ هناك ما هو أدعى للجهاد في سبيل الوصول إليه، ويدللون على ذلك باستعراضهم ما يملكون من ثروات منهوبة، لأغراض الجهاد وزهدهم فيها.
منذ أن ألقى البغدادي خطبة الجمعة في الجامع الكبير بالموصل في أول ظهور علني له وهو يرتدي ساعة يد فاخرة تبلغ قيمتها حوالي 6 آلاف دولار أمريكي، والرأي العام مشغول بالسؤال عن حجم التناقض بين دعوة داعش ومظاهر أعضاء التنظيم الحياتية. تواترت الأخبار بعد ذلك عن سرقة حقول النفط العراقية وبيعها في السوق السوداء، ثم سرقة الآثار التي تزخر بها بلاد الرافدين كما الشام وما تمثله هذه الآثار من ثروة قومية وقيمة عالية لا تُباع وتشترى ولا يضاهيها سعر النفط الذي تبيعه داعش في السوق السوداء. ولأكثر من مرة يعلن التنظيم عن هروب قيادييه بمبالغ مالية ضخمة بملايين الدولارات الأمريكية.
سريعًا ما تبدّى مكر تنظيم داعش حينما أعلن في لقطات فيديو تحطيم مقاتليه وتدميرهم آثارًا لما يعتبرونها أصنامًا في متحف الموصل الذي يحفظ تراث الآشوريين. وظهر بعد ذلك فيما قيل إنّه لم يكن سوى تمويه وصرف الأنظار حتى يتمكن التنظيم من بيع هذه الآثار وغيرها مما يقع في يده. وتمّ التأكد من هذا الأمر بعد أن أعادت الولايات المتحدة الأمريكية قطعًا أثرية للعراق، قبل أسبوعين في غارة نفذتها أمريكا على مقاتلي تنظيم داعش في سوريا ما يثبت تمويل التنظيم لحربه من تهريب الآثار. وتشمل القطع المضبوطة أختامًا أسطوانية قديمة وأواني فخارية وأساور معدنية وحُلى أخرى وعملات معدنية إسلامية قديمة. ووصف مسؤول أمريكي، القيادي الداعشي أبو سياف الذي قتل في الغارة في مدينة دير الزور جنوب شرق سوريا بالقرب من حقول النفط الرئيسية، بمسؤول تصريف مبيعات النفط والغاز لتنظيم داعش.
لن يكون سطو داعش على هذه الآثار أكبر سرقة في التاريخ، ففي ظل الفوضى الضاربة بأطنابها في العالم العربي، وزعزعة الأمن تمت سرقة بعض آثار مصر والسودان العائدة إلى زمن الفراعنة. ولن يكون الحديث عن التاريخ بشقيه المعنوي والمادي، المكتوب حديثًا أو المخطوط على ورق البردي، المسموع والمحسوس ماديًا متمثلاً في الآثار وما يوجد في المتاحف، حديثًا مفرطًا في الحساسية عند أقوام يدركون قيمة هذا التاريخ وآثاره، أما بالنسبة للبعض الآخر فعندما يرتبط بهذه الآثار أي حديث عن سرقة ما، فغالبًا ما يُخالج نفس المطلع كثير من الشك في وجود الأثر حقيقة حتى قبل السرقة. والحديث هنا ليس للتأسي على حضارة “سادت ثم بادت”، ولكن عن سرقة آثار توازي ضرورة حمايتها، حماية الموجودين على قيد الحياة، ليس من الأفراد فحسب ولكن عبر تدخل الدولة بوزاراتها للثقافة ومؤسساتها المتفرّعة. والاعتراض الطبيعي على سرقة الآثار ليست نتاج ثقافة فردية غير منطلقة عن ثقافة جماعية حيوية، ما يجعل هذا الحديث المفرط في تأويلاته يتأرجح بين مسؤولية الفرد المهتم بشؤون الثقافة وبين المسؤولية الجماعية لمؤسسات الدولة.
تلك سمات ثقافية لا يتم تلقينها للشعوب وإنما تجنح إليها بالفطرة التي تمنح لنتاج البلد الثقافي مهما تواضعت قيمته، تمنحه قيمة عُليا وترى في الحفاظ على هذه القيمة حقًا وطنيًا وواجبًا في الدفاع عن وجوده وصونه. فهل تتحقق هذه الصناعة الثقافية البسيطة عند أي من مؤسساتنا الثقافية الرسمية؟ وقبل الإجابة فليقف أي مؤرخ عربي ويحدّثنا عن آثار الآشوريين بأكثر مما جاء به المستشرقون، ليحدثونا عن كل نكسة تاريخية مرّ بها العراق وليدوّنوا بنفس الحماس سرقات النفط وسرقة الوطن والأحلام، أليس هذه مما يتوجب تدوينها من ضمن أكبر السرقات التاريخيّة في الوطن العربي.