حول وثيقة الإصلاح
> كان الفريق أول بكري حسن صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية في مؤتمره الصحافي الذي عقده أمس بمجلس الوزراء حول وثيقة إصلاح الدولة، صريحاً وواضحاً بما يكفي لإعطاء الإشارة للقوى السياسية المعارضة وحاملي السلاح. إن الحكومة جادة وماضية في عقد الحوار الوطني والالتزام الكامل بما يتمخض عنه ولو وصل ذلك إلى حل الحكومة القائمة وإعادة هيكلة الدولة، وهذه أقوى الإشارات التي صدرت عن الحكومة منذ خطاب الوثبة في يناير 2014م، وجاء أهمها في تأكيده على أن نوع الضمانات التي يمكن أن تُعطى لحاملي السلاح بما في ذلك معالجة الأحكام التي صدرت ضد بعض قيادات الجبهة الثورية
> بالأمس خلال المؤتمر الصحافي، ظهرت آراء كثيرة في التعليقات والاستفسارات والأسئلة حول المسارات التي حددها الرئيس في مبادرة الحوار الوطني، لماذا سبقت وثيقة إصلاح الدولة والخدمة المدنية عملية الحوار الوطني، وأيهما كان أولى؟. هل الإصلاح السياسي وتهيئة بيئته ومناخه يجب أن يكون متقدماً على وثيقة إصلاح الدولة وهياكلها ووزاراتها ومؤسساتها، أم العكس هو الصحيح..؟ وماذا تعني هذه الوثيقة المهمة التي قدمها الفريق أول بكري بالأمس وأثارت نقاشاً عميقاً وجدلاً استمر لإربع ساعات تقريباً..؟
> للحقيقة، فإن حديث النائب الأول للرئيس صوب نحو النقاط الرئيسة والأساس في المحاور والمجالات المختلفة التي حوتها الوثيقة وقدمها بطريقة سلسة وواضحة ووافية، عكست حجم التداول بين أجهزة الدولة حولها وسبل التطوير ومعالجة الاختلالات التي اعترت الدولة وتراكمت لسنوات طويلة حتى ظن الناس أن الفتق اتسع على الراتق.. ولا يوجد خلاف حول المفاهيم والأفكار والمنهج الذي حوته الوثيقة في كونها المدخل الصحيح للإصلاح، فقد وصلت الخدمة المدنية الى أدنى مستوى لها في تاريخها من ناحية الأداء وتراجعت الثقة فيها الى الحضيض، وذلك إما بسبب قلة الكادر ونقص الكفاءات او تسييسها من قبل الأنظمة المتعاقبة، وقد أُثيرت أمس خلال المؤتمر قضية التمكين التي شهدها عهد الإنقاذ، وردَّ النائب الأول للرئيس على هذه النقاط بدقة، ولم يحاول القفز على الحقائق، وأقرَّ بأن نهج التمكين كان سائداً، لكن جاء الوقت لتصحيح الأوضاع، وجعل الخدمة المدنية بعيدة عن السياسة في إطارها المهني، وأن تتم تقوية منصب الوكيل وتتخذ الإجراءات السليمة في تعيين الوكلاء وتدرجهم من داخل الحقل المهني في الوزارات المختلفة.
> بالرغم من وضوح الفكرة في وثيقة الإصلاح للدولة، إلا أن قضايا كثيرة تظل محل خلاف وجدل. فالمواطن يعلم علم اليقين أن التصورات والرؤى التي تُطرح من قِبل الحكومات لا غبار عليها نظرياً، فمعضلة وصعوبات التطبيق تظل هي الهاجس، بجانب مشكلة كبيرة تتعلق بالكفاءة الإدارية لقيادات الخدمة المدنية الراهنة وقدرتها على مواكبة الوثيقة ومطلوبات المرحلة، ما من أحد في هذه البلاد لا يقر بأن الخدمة المدنية فقدت الكثير من الخبرات، والتجارب المتمثلة في قياداتها مثلما فقدت الروح الفاعلة التي تدفع بها للعمل الخلاَّق والتجويد والإحسان والإحكام، فلو أرادت الدولة عبر هذه الوثيقة انتصلح الهياكل ووضعها وتصلح التشريعات والقوانين والوائح فذلك ممكن، لكن يظل البحث عن قيادات كُفأة وكوادر مدربة ومؤهلة في كل المواقع العامة لإدارة دولاب العمل العام وتقديم القدوة ومعالجة العلل الكثيرة الناجمة من فترات التدني والانهيار، لهو التحدي الأصعب الذي يواجه الحكومة وهي تقدم خطتها وتصوراتها للإصلاح.
> وغير بعيد عن هذا كله، نطرح الوثيقة والعمل على تجسيدها على أرض الواقع، يتطلب من الحكومة أن تطرحها للحوار العام مع الخبراء وأهل الدراية والتجربة خاصة كبار قادة الخدمة المدنية الحاليين والسابقين والأكاديميين والإداريين وأهل الرأي السديد، حتى تخرج مبرأة من كل عيب وبعيدة عن كل شانئة، ولتكن هي الموضوع الذي يتناقش فيه عامة الناس في مجالسهم وحواراتهم العفوية، لأن المقصد هو إصلاح دولة بأكملها وتهيئة مؤسساتها لنهضة كبيرة يتم فيها تلافي أخطاء الماضي ومعالجة القصور وبث روح جديدة لتسري في أوصال الدولة، وتعيد للسودان ميزاته التي يتحدث عنها الناس حولنا..