احمد دندش

(معليش) يامكة.!

(مكة)، بائعة شاي في خمسينات العمر، تمتلك وجهاً بشوشاً، وصدراً يتسع لكل الآراء، وعقلاً يفيض بالرزانة والحكمة، تعمل في بيع الشاي بإستادات كرة القدم، بعد أن توفي زوجها وترك لها اربعة أطفال لم يغادر أكبرهم محطة الثانوي.
تمتلك مقدرة فائقة على إمتصاص التعب، وتمتلك قدميها مقدرة غير عادية في التجول داخل الاستاد بطوله وعرضه لتوزيع اكواب الشاي على زبائنها من الجمهور، قبل أن تلقى بجسدها في الساعات الاولى من الصباح على (عنقريب) افقدته السنوات بريق الشباب، وتسببت في فقدانه لأحدى قدميه، فأستعاضت (مكة) عنها بجردل صغير يقوم مقام تلك القدم المفقودة.
منزل (مكة) يفتقد لابسط مقومات الحياة، ثلاجتها هي (زير) صغير استلقى بيأس على ارضية المنزل الترابية، و(الديب فريزر) الخاصة بها كانت المساحة التى تفصل مابين الزير والارض، وعلى جانب من الحوش الضيق المساحة كان يقبع المطبخ، وهو المنشأ بعدد من ربطات (الحصير البالية)، والتى يتوسطها كانون قديم صدئ وبضع اعواد ثقاب كبريت ملقاة على الارض.
هكذا كانت حياة (مكة)، والغريب أن مثل تلك الحياة قد تجعل البعض يلجأ لحلول أخرى للهروب، ولكن مع (مكة) الموضوع يختلف، فقناعاتها من الصغر أن (القناعة كنز لايفنى)، وعجيب أن تكون قناعتها بما تمتلك كبيرة.!
في ذلك الصباح أعدت (مكة) تجهيزاتها للذهاب للإستاد، توقفت أمام صاحب الدكان المجاور لمنزلها وطلبت منه أن يمنحها (3) كيلو سكر وعلبة شاي وبن، وبهدوء قام صاحب الدكان بمدها بما تحتاج، وقبل ان تغادر حرصت على أن تقول له في صوت خافت: (نفس النظام..حأبيع وأجيب ليك قروشك)، ويمنحها صاحب الدكان ابتسامة واسعة قبل ان يغمغم بهدوء: (الله يديك العافية يامكة).
وصلت (مكة) للاستاد يرافقها ابنها الاصغر الذى لم يتعد الست سنوات، توقفت أمام البوابة، فأشار لها العامل بالدخول وحرص على أن يقول لها بغلظة: (عليك الله أمشي للمكان المحددنو ليك طوالي…مادايرين الليلة اي فوضى)، وتبتسم (مكة) وتتجه بإنكسار نحو تلك القطعة التى منحتها لها ادارة الاستاد لتقوم بالبيع فيها.
جلست (مكة) وبدأت في إيقاد النار عبر حزمة من الصحف القديمة التى ابتلعها جوف ذلك الكانون المجنون، و….فجأة… تغيرت الاوضاع، وبدأت المدرجات في الغليان، وفي توتر راحت (مكة) تتلفت حولها لتعرف ماذا يدور، في تلك اللحظة تسلل طفلها الصغير بين الجموع الهادرة، استقرت نظرات (مكة) بالمكان الذى كان يجلس فيه ابنها، فلم تعثر عليه، نهضت مذعورة وراحت تركض وسط الجموع التى بدأت في إفتعال الفوضى داخل الاستاد، هاج المكان وماج وعلت الاتربة المختلطة بدموع (مكة) كل الاجواء…و…لمحته.!
كان طفلها في ذلك الوقت يبكي بحرقة وأحدهم يسأله في عصبية عن اسمه، هرولت (مكة) نحو طفلها وأحتضنته، في تلك اللحظة بدأت الجماهير التراشق بالحجارة، احكمت (مكة) ذراعيها على ابنها، وافسحت المجال لبعض الحجارة ان تصيبها في اجزاء متفرقة من جسدها…و…مرت نصف ساعة، عادت الاجواء لطبيعتها بعد ذلك الفاصل العنيف، وبدأت الجماهير في مغادرة الملعب، بينما كانت (مكة) تبحث عن (كانونها) وبقية اغراضها التى داست عليها اقدام تلك الجماهير.!
جدعة:
شخصيات هذه القصة من الخيال البحت، أما رسالتها فهي من الواقع.
شربكة أخيرة:
معاً من أجل رياضة تدعو للحب والأخاء والتآلف، ولا لرياضة العنف والدماء، والتى بسببها تتعذب ألف (مكة)..و….مكة.!

11889456 1039141219449626 6871544320159892578 n